في رحاب ميلاد البشير محمد (ص) و حفيده الامام الصادق (ع)
عندما حان وقت الميلاد أرهصت الدنيا بعلامات مجيء الهادي الحبيب، فالأرض مُلِئَت ظُلماً وجوراً، والجاهلية قد استطال ظلامها فغَشيت العيون والقلوب، وغدت الأرض مرتعاً للظلم والفساد؛ والأديان وكتب الله قد حُرِّفت وشُوِّهت معالمها، وكان لابدّ أن يشرق اللّطف الإلهي في ربوع الأرض، وتتجدّد رسالة الله سبحانه للإنسان، فيخاطبه بالكلمة الحقّ، ويبلِّغه بدعوة الهدى، وشاء الله أن يولد النور في رحاب مكّة، ويشع الوحي في سمائها المقدّس، ويتعالى صوت التوحيد في الحرم الآمن، حرم إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام). وكما حدّثنا القرآن وصوّر لنا ببيانه العذب، وأُسلوبه الأنيق، وعرضه المعبِّر الدقيق، تلك الصور والأوضاع المأساوية التي عايشها الإنسان المعذّب في مرحلة ما قبل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فجاهلية العرب ووثنيّتها وأمِّيّتها ووحشيّتها تعبث بأطلال الجزيرة، وتدنِّس ربوع مكّة والبيت الحرام؛ ومجوسيّة الفرس وسلطانها تعبث في مشرق الدنيا فساداً، والنار تُعبَد من دون الله؛ وأحبار اليهود ورهبان النصرانية قد حرّفوا التوراة والإنجيل؛ ودولة الروم تسوم الناس في مغرب الدنيا سوء العذاب؛ والعالم يضجّ، وكَيْلُ الأرض يطفح بالجرائم، وحياة الغاب المتوحشة تسيطر على سلوك الإنسان. في هذا الوسط الاجتماعي المتداعي وفي ظلمات ذلك العصر الجاهلي المتخلّف بزغت أنوار الإسلام، وشعّ ضياء محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب ابن هاشم بن عبد مناف (صلى الله عليه وآله وسلم)، المنحدر من ذرّية النبي إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) ودعوة إبراهيم المستجابة التي رواها القرآن على لسان إبراهيم (عليه السلام): (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة/ 129). ويحكي رسول الله هذه الدعوة ويوضِّح ذلك السرّ، فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا دعوة أبي إبراهيم». فقد دعا النبي إبراهيم (عليه السلام) ربه حين أنزل ولده إسماعيل في مكّة، وهي أرض لا زرع فيها ولا ماء، تحيطها البوادي القفر وتطوقها الجبال الجرداء، دعا الله أن يرزقهم من الثمرات، ويجعل الأرض المباركة عامرة بالناس والقاطنين: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...) (البقرة/ 126).
ودعا أيضاً أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم، فاستجاب الله دعاءه، وكان محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذرِّيّته المباركة يحمل راية التوحيد، ويُبشِّر بدعوة الهدى والإصلاح.
وقد شاء الله أن يقترن والد النبيّ: عبد الله بن عبدالمطّلب بن هاشم ابن عبد مناف بآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، بعد حفر بئر زمزم بعشر سنين أو تزيد، وبعد افتداء أبيه له من الذبح بسنة. وفي عام المحنة عام الفيل، الذي دهم فيه مكّة خطرُ الغزو والعدوان الحبشي لهدم الكعبة واطفاء نور النبوات واستئصال ميراث إبراهيم العظيم (عليه السلام)، في هذا العام (571) للميلاد ولد محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في شهر ربيع الأوّل، قبل هجوم جيش الفيل بخمسين ليلة. وَلَدَته أُمّه آمنة بنت وهب في مكّة المكرّمة في منزل أبيه عبد الله بن عبدالمطّلب في شعب أبي طالب في البيت الذي آل إلى محمّد بن يوسف الثقفي، أخي الحجّاج بن يوسف الثقفي. وكانت ولادته قبل وفاة أبيه بشهرين، وقيل بعد وفاته. وُلِدَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فولدت معه الآمال الكبار وولدت بميلاده حياة الإنسان، وفتحت صفحات وفصول جديدة في تأريخ البشرية. لقد كان يوم مولده هو يوم ميلاد الثورة على الظلم والفساد والطغيان، وهو يوم التغيّر الشامل في حياة البشرية. وُلِدَ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستقبله جدّه عبدالمطّلب بن هاشم بالغبطة والسّرور، فقد كان أبوه عبد الله ذاهباً إلى الشام في سفر للتجارة والمقايضة.
وقد اهتم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأهل البيت عليهم السلام تربية وتأهيلا وتفضيلا، تنفيذا لأمر الله تبارك وتعالى: {قُل لا أسألُكم عليه أجرا إلا المودَّة في القربى}. الإمام جعفر الصادق عليه السلام سادس الكوكبة الإلهية الذين أمرنا الله تبارك وتعالى بمودتهم ومحبتهم واتباعهم. الإمام جعفر الصادق عليه السلام إمام المسلمين واستاذ الفقهاء والمجتهدين ومرجع العلماء والمفكرين علم من أعلام أهل البيت عليهم السلام، تربى وترعرع عليه السلام في ظلال أبيه الإمام محمد الباقر عليه السلام وجده علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام وعنهما تلقى علوم الشريعة ومعارف الإسلام، حيث أن أهل البيت عليهم السلام اكتسبوا العلم أبنا عن أب عن جد عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ما عبر عنه إمامنا الصادق عليه السلام (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب، وحديث علي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله).
نشأت في المجتمع في عصر الإمام الصادق عليه السلام حركة علمية فكرية نشطة، فنما فيها التفكير والبحث العلمي حيث كان الإمام الصادق عليه السلام قمة شامخة فجر ينابيع المعرفة وأفاض العلوم والمعارف على علماء عصره وأساتذة زمانه وكانت أساسا وقاعدة علمية وعقائدية متينة ثبت عليها بناء الإسلام واتسعت من حولها أحكامه ومداراته، فقد روى الشيخ المفيد (كان الصادق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين من بين أخوته خليفة أبيه محمد بن علي عليهما السلام ووصيه القائم بالأمانة من بعده وبرز على جماعتهم بالفضل وكان أنبههم ذكرا وأعظمهم قدرا وأجلهم في العامة والخاصة، ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نقل عنه ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبدالله عليه السلام، فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على إختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل). وكتب الأستاذ محمد فريد وجدي صاحب دائرة معارف القرن العشرين عن الإمام الصادق عليه السلام فقال: (أبو عبدالله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، هو أحد الأئمة الاثنى عشر على مذهب الإمامية كان من سادات أهل البيت النبوي، لقب بالصادق لصدقه في كلامه، فكان من أفاضل الناس وله مقالات في صناعة الكيمياء، وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيان الصوفي قد ألف كتابا يشتمل على ألف ورقة تتضمن رسائل الإمام جعفر الصادق عليه السلام وهي خمسمائة رسالة). ويحدث بعض الرواة: (أدركت في هذا المسجد - مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله - تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد). امتدت مدرسته عليه السلام إلى مختلف مواقع العالم الاسلامي وكان عليه السلام ينفتح على كل الاتجاهات الفكرية، والثقافية المتنوعة، وحتى الإلحادية، وحواراته في كثير من القضايا العقائدية وإجاباته التوضيحية والمقنعة، وبكل رحابة صدر، وردوده بالحجة والبرهان القوي حتى قال بعضهم: (ما رأيت رجلا يستحق اسم الإنسانية إلا جعفر بن محمد).