التعذيب بالمعلن عنه ليس انحرافاً مؤسساتياً بل تعبير عن الذات الأميركية
حسام مطر
ترتكز حملات الدبلوماسية العامة الأميركية حول العالم على الترويج للمنافع التي يمكن استجلابها من خلال تبني النموذج الأميركي. حملات تهدف لعرض وتسويق "ضرورة” و”فرادة” الإمبراطورية الأميركية بالنسبة للبشرية التي تسعى "للصالح العام العالمي”، والتي من دونها ينهار الاستقرار ويتبدد الرفاه وتُعدم الحقوق والحريات. "السلطة الأخلاقية” و”الرأسمال الثقافي” و”القوة الناعمة” هي ضرورة لإدامة الهيمنة الأميركية وتحسين فعالية الإمبراطورية عبر تقليص الحاجة للقهر (الاقتصادي والسياسي).
رغم فظاعة ما كشفه التقرير الأميركي حول عمليات التعذيب والاعتقال التي قامت بها المخابرات الأميركية المركزية بين عامي 2001 – 2009 (الإيهام بالغرق، الاحتجاز بتوابيت، الإطعام الشرجي، التلاعب بحرارة الجسم، إضافة للوسائل التقليدية) إلاّ أنه لا يدعو للاستغراب. هذه الممارسات هي من سنخ الولايات المتحدة. يحاول المسؤولون الأميركيون إظهار الصدمة بمّا كشفه التقرير – ربما بعضهم مصدوم فعلاً – من باب تبرئة أميركا (الدولة والحلم والفكرة) من هذه الممارسات. ما يقوله الأميركيون للعالم إن ما حصل هو مجرد "انحراف” مؤسساتي، الاستخبارات تلاعبت وأخفت المعلومات وتجاوزت القرارات والتعليمات وتمردت على السلطة السياسية.
كيف يمكن لدولة قتلت عشرات الملايين من البشر خلال المئة عام الأخيرة أن تصدم العالم لأنها عذبت بضع عشرات من المعتقلين؟، العنجهية الأميركية الصماء تجهل أن غالبية شعوب العالم محصّنة من الدهشة تجاه فظاعات الولايات المتحدة. كيف يمكن لوالدة رضيع قُطع رأسه بغارة أميركية أن تندهش من أن محققاً أميركياً رمى معتقلاً بالمياه الباردة؟، كيف لوالد شاب تعرض لاعتداء جنسي في سجن أبو غريب على يد المحتل الأميركي أن يذهله حجز شاب في تابوت محشو بالحشرات؟، كيف لشعوب اهينت كرامتها الوطنية يومياً بيد الأميركيين أن تُصعق لأن محققاً أميركياً هدّد معتقلاً باغتصاب والدته؟. التقرير يكشف "روح” أميركا وماهيتها وليس بالتأكيد انحرافاً سياسياً، الاستخبارات فقط كبش المحرقة.
من سيحاسب أميركا؟ عندما تخطئ الإمبراطورية يكفي الاعتذار أو إعلان الأسف لأن الفعل المولد للخطأ يجب أن تتقبله البشرية كونه مجرد عارض جانبي للدور الأميركي "الخيِّر”، مع العلم أن الإمبراطورية هي من تقرر وقوع الخطأ من عدمه، هي ترسم حدود القانون، هي من تفسره وتؤوّله، وهي من تشرعن ضرورات الخروج عليه. الدور الإمبراطوري يستوجب "سمو” القانون الوطني الأميركي على ذلك الدولي. أميركا خارج منطق المحاسبة. هي صانع النظام وما على الآخرين إلاّ الاندهاش والإعجاب لقيامها بالإقرار بإحدى خطاياها واعتبار ذلك دليل شجاعة وجرأة وتواضع ومكاشفة وشفافية.
تحسّبت واشنطن لردود فعل شعبية حول العالم لا سيما في الشرق الأوسط، لكن شيئاً لم يحدث حتى اللحظة. ذهب أحد الأميركيين لتفسير ذلك بغياب العامل الديني في الانتهاكات كما في حالة حرق نسخة من القرآن الكريم والفيلم المسيء للنبي محمد (ص)، وكذلك الى اعتياد شعوب المنطقة على ممارسات مشابهة سواء من أنظمتها القمعية أو من "إسرائيل”، إلاّ أنه يمكن إضافة أسباب أخرى، فالمنطقة حالياً في حالة استنزاف نفسي وسياسي واجتماعي لم يسبق لها مثيل بفعل الحروب المحلية المندلعة فيها، وثانياً لأن الخطاب الإعلامي بأغلبه إما منهمك بأولويات أخرى مرتبطة بالصراعات الحالية وإما منخرط مع واشنطن في تمييع الحدث ومقاربته بصورة باردة وعابرة.
يعتبر الأميركيون أنهم تطهروا الآن من فظائعهم في "الحرب على الإرهاب”، وأن من شأن ذلك تعزيز "سلطتهم الأخلاقية”. لكن هنا ينبغي العودة الى نظرية موريس هلبواخس حول كيفية تكيف المجتمعات مع الصدمات من خلال دفنها مؤقتاً لحين التمكن من التعبير عنها، أو بتعبير جون دوفينيو: "للمجتمعات التاريخية حوافظ تخفى وقتياً عن التاريخ”. إن شعوب المنطقة قد تدفن الآن هذه الأحداث المهينة في أعماق الذاكرة الى أن يجري هضمها وتنضج فيصبح الإفصاح عنها ممكناً. هي "الذاكرة الجريحة” – بحسب تعبير جان زيغلر - لشعوب منطقتنا والتي لطالما استهان بها الغرب كون ذاكرته مستبدة ومتسلطة وكونه اعتاد المبارزة بالسيف لا مواجهة أنظار المهانين. هذه الذاكرة كفيلة على الأقل أن تذكرنا بأن سلطة واشنطن "الأخلاقية” ليست إلا خرافة إمبراطورية.