إفشال التسوية مسؤولية أمريكية
علي جرادات
إلى فشل ذريع انتهت رعاية الولايات المتحدة، منذ 1991، للمفاوضات الثنائية المباشرة لتسوية الصراع العربي الصهيوني، وجوهره القضية الفلسطينية، وفق مقاربة "الأرض مقابل السلام". فلا أرضاً استعيدت، ولا سلاماً تحقق، بل ولا حتى سياسة العدوان والقتل الممنهج ونهب وتهويد ما تبقى من أرض الضفة، وقلبها القدس، تغيرت. والسؤال هل حكومات الاحتلال المتعاقبة هي فقط من يتحمل مسؤولية هذا الفشل، وبالتالي مسؤولية إدامة الصراع؟
بات واضحاً أن الولايات المتحدة تتحمل قسطاً أساسياً من هذه المسؤولية، لأنها لم تكن طوال عقدين ويزيد من المفاوضات مجرد راعٍ منحاز لشروط "إسرائيل" التعجيزية، فحسب، بل كانت راعياً معادياً لحقوق الشعب الفلسطيني المكفولة بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، أيضاً. اتهام الولايات المتحدة هنا ليس اتهاماً اعتباطياً أو أيديولوجياً مسبقاً، بل اتهام يزكيه أنها لم تضغط، وهي القادرة، على أيٍ من حكومات الاحتلال، بما فيها أشدها تطرفاً وعنصرية وفاشية، حكومة نتنياهو، التي تستهدف إنهاء الصراع وفق شروط الرؤية الصهيونية، وجوهرها: "فلسطين يهودية كما هي إنجلترا إنجليزية وهولندا هولندية". الرؤية التي كان بدأها كل من هيرتسل وحاييم وايزمان وجابوتنسكي وبن غوريون بالإنكار الأيديولوجي المطلق لوجود الشعب الفلسطيني: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ويختمها اليوم الرباعي الفاشي نتنياهو ويعالون وليبرمان وبينت بالتعامل مع الفلسطينيين كمجموعات سكانية تعيش تحت سيادة "الدولة القومية للشعب اليهودي"، لهم حق التمتع بحقوق فردية في مناطق 48، وإقامة "سلطة" "حكم إداري ذاتي" "مُسيطر عليه براً وجواً" في الضفة بلا القدس ومفصول عن قطاع غزة المُسيطر عليه، (يعني المُحتل)، براً وبحراً وجواً. ما يعني أننا في البدء والخاتمة أمام إنكار لحقيقة أن الفلسطينيين شعب له الحق في تقرير المصير وبناء دولة مستقلة وسيدة وعاصمتها القدس، وللاجئين منه الحق في التعويض والعودة لديارهم التي شردوا منها، وللصامدين منه على أرضهم في مناطق 48 حقوقاً وطنية، بوصفهم جزءاً لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني.
إذاً الشعب الفلسطيني يواجه حكومات الاحتلال وإدارات راعيها الولايات المتحدة. والمفارقة أن الولايات المتحدة هذه ترفض التخلي عن احتكارها لملف القضية الفلسطينية، وكأنه حق أصيل وحصري لها، بل وترفض أي تجاوز لصيغة المفاوضات الثنائية المباشرة الفاشلة، أو تحديد سقف زمني لها، ما يعني استمرارها إلى أجل غير مسمى، واعتبار لجوء الطرف الفلسطيني إلى هيئة الأمم، ولو بصيغة الطلب إلى مجلس الأمن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال، مع الاستعداد لاستئناف المفاوضات، "خطوة أحادية" "استفزازية"، وتضر بجهود استئناف المفاوضات لتحقيق "السلام وحل الدولتين"، ما يستدعي مقابلتها بالرفض والضغط والابتزاز والتهديد والوعيد، وبتفعيل كل أوراق قوة الولايات المتحدة، وما أعظمها، وأوراق قوة حلفائها، وما أكثرهم، في الإقليم والعالم. أما الخطوات الأحادية لحكومات الاحتلال التي لم تتوقف منذ بدء المفاوضات وحتى اليوم عن سياسة العدوان الاستيطان والتهويد والقتل الممنهج، وصولاً إلى سنِّ "قوانين أساسية" تُمأسس وتقونن العدوان والتوسع، وترفع العنصرية إلى حدود الفاشية، ولا تترك متسعاً لتسوية سياسية للصراع، بل تعطيه بعداً دينياً من شأنه إشعال المنطقة.
خلاصة القول: الولايات التي غطت إفشال حكومات الاحتلال لنحو 25 عاماً خلت من المفاوضات، لا تتحمل مسؤولية أساسية عن عدم التوصل إلى تسوية سياسية، ولو متوازنة، للصراع، فحسب، بل تتحمل أيضاً مسؤولية أكبر عن القائم والقادم من تأجيج الصراع وتصعيده، وتحويله إلى اشتباك مفتوح على المجهول المهول من المعارك والحروب وإزهاق الأرواح وسفك الدماء، لأنها، أي الولايات المتحدة، تسكت على الفاشية الصهيونية المتصاعدة بقيادة نتنياهو، كفاشية تجتاح "إسرائيل"، فكراً وسياسة ومجتمعاً وجيشاً وأمناً، كما لم يحصل من قبل، وتعبّر عن نفسها في القتل الممنهج للفلسطينيين على يد جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين الفالتة من كل عقال، وفي استخدام سياسة الدمار الشامل والإبادة الجماعية في الحرب الأخيرة على قطاع غزة، وفي الإمعان في تهويد القدس وتكثيف الاستيطان في الضفة، وفي سياسة متغطرسة ليس آخرها الإقرار الحكومي لمشروع قانون "إسرائيل دولة للشعب اليهودي"، تمهيداً لإقراره في "الكنيست" كقانون أساس، (أي مُحصَّن)، يستهدف حقوق الشعب الفلسطيني من جميع جوانبها، ويجعل كل حديث عن "حل الدولتين" بلا معنى، ببساطة لأننا أمام قانون يلغي رواية كاملة، هي رواية الشعب الفلسطيني، الذي كما لم يستسلم طوال قرنٍ من الصراع، رغم اختلال ميزان القوى وهول ما أُرتكب بحقه من جرائم، لن يستسلم لهذا القانون النكبة، بل سيناضل ضده بكل ما أوتي من قوة، بعدما أعطى عقدين ويزيد من الرهان على خيار التفاوض الثنائي برعاية أمريكية لنيل الحد الأدنى من حقوقه الوطنية. لكن إدارات الولايات المتحدة بتغطيتها لغطرسة حكومات الاحتلال وعنصريتها، بل وفاشيتها، دفنت هذا الخيار.
ولا عجب. فبقاء "إسرائيل" دولة مارقة فوق القانون الدولي ليس سوى واحدة من عواقب سياسة الولايات المتحدة الهجومية منذ صارت قطباً أوحد للسياسة الدولية ومؤسساتها وقراراتها، فراحت تشن الحرب تلو الحرب من دون توقّف.