ليست نهاية الربيع العربى
فهمي هويدي
(1)
أتحدث عن صدمة البعض وشعورهم باليأس حين أعلنت براءة الرئيس الأسبق حسنى مبارك وأعوانه فى مصر، والذين انتابهم نفس الشعور حين أعلن فوز حزب الثورة المضادة فى الانتخابات التشريعية التونسية، وظهور على عبدالله صالح كأحد اللاعبين الرئيسيين فى الساحة اليمنية، والاحتراب الأهلى فى ليبيا. والظهور المريب لتنظيم داعش الذى دخل إلى الساحة كى يفسد المشهد كله فى الشام.
أتحدث أيضا عن الذين احتشدوا لإفشال الربيع العربى وإجهاض مسيرته إما تضامنا مع حلفائهم أو دفاعا عن أنفسهم أو الاثنين معا. ففتحوا خزائنهم وحشدوا منابرهم الإعلامية واستدعوا عناصر الدولة العميقة من مكامنهم، وأطلقوا حملات التعبئة التى سممت أجواء الربيع وأعلنت الحرب على التاريخ. فكانت الانتكاسات والهزائم التى سربت القنوط إلى نفوس كثيرين، الأمر الذى سوغ للبعض أن يعلن على الملأ وفاة الربيع العربى وطى صفحته. ومن ثم صبوا عليه اللعنات وأهالوا على وجهه الأوحال ونعته بمختلف أوصاف الشماتة والهجاء، التى كان أخفها أنه كان خريفا وخرابا عربيا.
لا أنكر شواهد الفشل والانتكاسات التى حفلت بها مسيرة الربيع العربى، كما أن الانتصارات التى حققتها الثورة المضادة ماثلة تحت أعيننا ولا سبيل لتجاهلها أو إنكارها بدورها، لكننى أزعم ان هذا كله وذاك لا يعنى بالضرورة نهاية الربيع العربى إذا احتكمنا إلى تحليل الواقع وخبرة التاريخ. وإذا اعتبرنا ما مررنا به درسا نتعلم منه ما يبصرنا بأخطائنا ومواطن الضعف فينا، وليس نعيا لتطلعات شعوبنا وأحلامها.
(2)
قبل أسبوعين قدم إلى القاهرة أحد الباحثين الإندونيسيين المرموقين هو البروفيسور سالم سعيد الذى يقوم بالتدريس فى كلية الدفاع بجاكارتا، وكان الهدف من زيارته هو دراسة التحولات التى شهدتها مصر بعد ثورة 25 يناير، وانتهت بعزل الدكتور محمد مرسى وانتقال السلطة إلى مرحلة مغايرة بعد الثالث من يوليو عام 2013، ولأنه متخصص فى دراسة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والطبقة السياسية وبصدد إعداد كتاب عن التجربة المصرية، فإنه التقى عددا من المثقفين المصريين. وطرح على الجميع قائمة من الأسئلة التى تعلقت بما جرى وتحليله. وكانت أهم خلاصة خرج بها ان نقطة الضعف الأساسية فى التجربة المصرية بعد ثورة يناير 2011 تكمن فى هشاشة المجتمع المدنى بمختلف مؤسساته السياسية والنقابية والمهنية، الأمر الذى أحدث فراغا هائلا فى الساحة السياسية، كانت المؤسسة العسكرية هى الوحيدة القادرة على ملئه. وقد اعتبر ان ثمة تماثلا بين الخبرتين الإندونيسية والمصرية فى هذا الصدد. ذلك ان الجنرال سوهارتو الذى تولى السلطة فى عام 1967 وأمضى أكثر من ثلاثين عاما فى منصبه ــ كما حدث مع مبارك ــ شاع فيها الفساد مع الاستبداد الذى فرغ البلاد من قواها المدنية. ولم يستقل إلا بعدما انطلقت الانتفاضة الشعبية ضده. لكن حكمه جعل المجتمع المدنى فى حالة من الضعف مماثلة لما آلت إليه الأوضاع فى مصر. وقد عاشت إندونيسيا فى ظل ذلك الفراغ بعض الوقت، ولكن نائبه الدكتور برهان الدين حبيبى الذى كان أستاذا جامعيا أدار الفترة الانتقالية بكفاءة وضعت إندونيسيا على المسار الديمقراطى الصحيح الذى أنعش المجتمع المدنى وحصن البلاد ضد التقلبات والمغامرات السياسية، ولأن البروفيسور سعيد كان قد تابع جانبا من التجاوبات الحاصلة بين الأحزاب السياسية المصرية بشأن ترتيبات الانتخابات التشريعية القادمة، فقد اعتبر ما رآه دليلا على عمق الفراغ فى الساحة السياسية، الذى لا سبيل إلى تجاوزه إلا باستعادة المسار الديمقراطى بصورة جادة مع الاستعداد لاحتمال ثمن الدخول فى تلك المرحلة، التى لن يتحقق فيها النجاح إلا بعد المرور بمحطات الفشل واجتيازها.
أدرى أن دروس التجربة المصرية تحتاج إلى مناقشة أوسع لا تحتملها أجواء الاستقطاب الراهنة، التى هى من علامات افتقاد المجتمع المدنى إلى الرشد وتغليب المصالح العليا التى تتجاوز الانتماءات باختلاف أشكالها. إلا ان النقطة التى أثارها الباحث الإندونيسى لها أهمية خاصة، وربما كانت تمثل إحدى العلامات الفارقة بين النجاح النسبى الذى حققته الثورة فى تونس والفشل النسبى الذى أصابها فى مصر.
(3)
على صعيد آخر فإننا نخطئ فى قراءة الربيع العربى بحسبانه انتفاضة من شأنها إسقاط لأنظمة وإقامة لأنظمة بديلة بذات القدر فإننا نخطئ إذا حاكمناه بسلوك القابضين على السلطة أيا كانوا، ذلك اننى أزعم ان الربيع فى حقيقته هو بمثابة روح جديدة سرت فى جسد الأمة، عبأتها بالرغبة فى التغيير والثورة على الظلم السياسى والاجتماعى. وهى من هذه الزاوية تعد تحولا تاريخيا لا يتوقع انجازه خلال عدد محدود من السنوات. ونحن لا نعرف فى التاريخ المعلوم ثورة سريعة كاملة الأوصاف انجزت التحول الديمقراطى بقليل من التكاليف وبكثير من التسامح والوفاق. بذات القدر فلم تحدثنا خبرات الأمم على مدار التاريخ عن ثورة مضادة كانت أقل حدة وغلوا من الثورة الأصلية، ولكن العكس هو ما حدث. لأن التجارب التاريخية أكدت أن الثورات المضادة عادة ما تكون أكثر خطورة وعنفا وأسوأ من الواقع الذى سبق الثورة، وهو أمر مفهوم، لأنه من الطبيعى ان يشتد خوفها من خسارة المكاسب الكبيرة التى راكمتها على مدار سنين طويلة.
ولعلم الجميع فما من ثورة فى التاريخ إلا واعقبتها ثورة مضادة اتفقت فى الهدف واختلفت فى الدرجة. ولعلى أعيد التذكير فى هذا الصدد بأن آل البوربون عادوا إلى عرش فرنسا بعد عقدين ونصف عقد على اندلاع الثورة الفرنسية. واستطاع شاه إيران العودة إلى الحكم بعد ثورة مصدق واستطاعت الثورة المضادة فى تشيلى برئاسة الجنرال أوجستو بينوشيه الانقلاب على حكم سلفادور الليندى الذى وصل إلى الرئاسة عبر صناديق الاقتراع.
أكثر من ذلك، فعادة ما تكون نسبة نجاح الثورات المضادة كبيرة، بسبب امتلاك الأنظمة لأدوات القمع، وقدرتها على تجنيد الفئات الاجتماعية المستفيدة منها، فضلا عن قدرتها على ضرب القوى الاجتماعية الفاعلة ببعضها البعض نتيجة اقتحامها للبنى الاجتماعية. وبسبب احتكارها للسلطة والثروة فإن ذلك يوفر لها خبرة أوسع بالخرائط الاجتماعية وكيفية اختراقها واستمالتها، إلى جانب أن ذلك الاحتكار يوفر لها مصادر للتمويل تمكنها من الانفاق بشكل باذخ على المعارك التى تخوضها على مختلف الجبهات.
(4)
الأستاذ الجامعى الأمريكى ذو الأصل اليابانى فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب "نهاية التاريخ” له كتاب جديد صدر أخيرا بعنوان "النظام السياسى والتآكل السياسى”. تعرض فيه للربيع العربى وما أسفر عنه من "نتائج مؤسفة”. حتى الآن ــ على حد تعبيره ــ ومما قاله إن كثيرين من الغربيين خصوصا الأمريكيين منهم والإسرائيليين، عبروا عن استيائهم لذلك، واعتبروا ان الأوضاع فى العالم العربى كانت أفضل قبل حلول ذلك الربيع. وقال آخرون إن الربيع جلب أنظمة إسلامية زادت من مشكلات المجتمعات العربية، وفى رده على هؤلاء قال فوكوياما: ان الذين يتحدثون عن المشكلات وينتقدون الربيع العربى ينسون أن "ربيع أوروبا” كان طويلا ومعقدا وفوضويا أحيانا. ذلك ان استقرار الديمقراطية والتمكين لها فى أوروبا اقتضى مرور قرن كامل على ربيع الشعوب فى عام 1848 (الثورة الفرنسية). أضاف الكاتب قائلا إنه لابد من مضى وقت طويل وفوضوى أحيانا لكى تستقر القيم الديمقراطية فى العالم العربى وتدرك المجتمعات أهمية الانتخابات الحرة واحترام رأى الأغلبية والحاجة إلى تداول السلطة، ذلك أن زراعة ورعاية بيئة ثقافية تحترم الحرية ليست أمرا سهلا.
ثمة نقطة أخرى تهمنا فى السياق الذى نحن بصدده أثارها أحد كتاب صحيفة "لوموند” الفرنسية ــ ارنو لوبا مانتييه ــ إذ ذكر ان المسار الديمقراطى يتقدم باطراد فى أنحاء العالم، إذ فى الفترة بين عامى 1970 و2008 تضاعف حجم ثروات العالم أربعة أضعاف. وفى عام 1974 اقتصر عدد الدول التى التزمت بالتطبيق الديمقراطى على 40 دولة فقط، لكنه وصل الآن إلى 120 دولة، إلا أن العالم يمر الآن بما يمكن وصفه بـ”الركود الديمقراطى”، على حد تعبير لارى دايموند الخبير فى شئون الديمقراطية والأستاذ فى جامعة ستانفورد الأمريكية.
الركود الديمقراطى يعد أحد الظواهر المرصودة فى العالم العربى الذى أصبحت فيه الخيارات الديمقراطية ضعيفة الصلة بالليبرالية، وسواء كان ذلك راجعا إلى التركيبة الاجتماعية متعددة الهويات المهيمنة فى العالم العربى، أو إلى "الربيع النفطى” الذى أدى إلى تهميش فكرة الديمقراطية وإضعافها أو إلى الاستقطاب الذى قسَّم النخبة وعطل دورها، فالشاهد ان هذه كلها أوضاع قابلة للتغيير ولا يمكن اعتبارها جدارا يصعب اختراقه يحول دون تحقيق الربيع العربى لأهدافه المنشودة، خصوصا إذا استعادت الجماهير وعيها وتحملت النخبة مسئوليتها التاريخية إزاء شعوبها.
أدرى ان هجوم الثورة المضادة شديد وشرس وان عناصره تملك من الخبرات والإمكانيات والدعم الإقليمى الذى يوفر لها فرص التقدم والنجاح، ثم إننا لانستطيع أن نتجاهل دور المنابر الإعلامية المعبرة عن تلك الثورة، التى حققت نجاحا مشهودا فى تشويه الرأى العام وتخويف جماهيره. وهو ما لمسناه بوضوح فى تونس، حين نجحت عمليات التشويه والتخويف على نحو جعل الأغلبية تصوت لحزب الثورة المضادة فى جولة الانتخابات التشريعية الأخيرة، ويعزف بدرجات متفاوتة عن تأييد المناضلين الذين تمردوا على استبداد النظام السابق وضحوا بالكثير دفاعا عن حق الجماهير فى الحرية والديمقراطية.
كل ذلك صحيح، لكن الأصح منه أن رحلة التحول الديمقراطى طويلة وشاقة وان الربيع العربى صنعته إرادة الشعوب ولم تصنعه الزعامات ولا الأحزاب، وقد علمتنا خبرة التاريخ أن إرادة الشعوب لا تقهر وان أى تشويه لتلك الإرادة يظل خبثا طارئا لا دوام له.
الربيع العربى لم ينته، وكل الذى حدث أنه هزم فى بعض جولات تقدمه.