إشكالية مقاربة الشأن العام في لبنان
د. محمد علي جعفر
يجري النقاش دوماً في دور النُخب العملية في تطوير نُظُم الحكم وإدارة التحولات في الدول والشعوب. ولعل ذلك يطرح نقاشاً طبيعياً حول عملية التكامل في الأدوار بين القيادة السياسية في الدولة والنخب العلمية الفكرية. وهنا فإن نقطة الالتقاء بين هذه الأطراف، هي دائماً غائبة في الدول النامية ولأسباب معروفة. لكن مقاربة هذه العلاقة التكاملية، ما تزال تحتاج الى طروحات تحفظ حق الطرفين.
وبالانطلاق من أنه لا يمكن تغييب دور النُخب العلمية عن أي عملية تطوير في أي مجال، لما تستوجبه عملية التطوير من لحاظ "المعايير العلمية"، فإن "معيار التجربة" أيضاً لا يقل أهمية عن المعايير العلمية وهو بحد ذاته معيار علمي يجري اعتماده في الاستدلال العلمي خصوصاً عند استشارة أهل الخبرة. وهنا يقع التكامل بين القيادة السياسية والنخب العلمية. فأين تكمن أهمية الطروحات العلمية في الدول؟ ولماذا يجب لحاظها؟ وكيف يمكن أن يتقدم الطرح الواقعي للقيادة السياسية على الطرح العلمي في معالجته لقضايا الشأن العام؟
اشتباهٌ كبيرٌ يقع فيه الأعم الأغلب عند الحديث عن القضايا العلمية. وهو المشكلة المُعقدة التي سنوضحها بشكل مُبسط. وسنسعى لإعادة إحياء العلاقة المطلوبة بين النخبة العلمية التي يُبنى عليها أمل التقدم في الدولة والمجتمع من جهة، والقيادة السياسية التي تُحدد مصالح الدولة وتُدير عملية صُنع القرار. وهو ما يستوجب الانطلاق من إطارٍ يُشكل مجموعة من الحيثيات التمهيدية نُشير اليها في التالي:
أولاً: إن غياب المنطق العلمي يعني حتماً غياب النتائج العلمية. لذلك تعتمد عملية صناعة السياسة العامة في الدولة على نتائج البحث العلمي. وعندما يغيب البحث العلمي تغيب القدرة على تحديد الخيارات اللازمة والتي تهم المواطن لوضعها أمام صنُاع القرار. وهو ما يُفسِّر حجم الفجوة بين الحكومة والشعب في الدول النامية.
ثانياً: إن البحث العلمي ليس عبارة عن نص مُنظَّم ضمن منهجية يتضمن مجموعة من المصادر مع مقدمة وخاتمة، بل هو عبارة عن عملية مقاربة لمشكلة واقعية وبشكل يَصِفها ويُحلِّلها ويُقدم معالجات مناسبة لها. وهو ما قد يقع في عدة أبحاث يُعالج كل منها جزءاً من العملية. لكن البداية تكون في تحديد مشكلة واقعية.
ثالثاً: ليس بالضرورة أن كل بحث ينتج عن مركز أبحاث أو دراسات وتحديداً في دولنا يتَّصف بالعلمية. بل إن حالة التخلًّف التي تسود آليات الحكم في الدول النامية كفيلة بإظهار حجم اللاوقعية في مقاربة الشأن العام وبالتالي غياب صفة العلمية عن مقاربات النُّخب المعنية. مع ضرورة لحاظ أن أغلب مراكز البحث العلمي في دولنا تفتقد الى المعايير العلمية وهو ما يعود لغياب معايير جودة البحث العلمي وغياب الرقابة الرسمية المطلوبة وكذلك افتقاد هذه المراكز للأسلوب العلمي في طرح المشكلات وتحديد المعالجات.
رابعاً: قد تحمل الطروحات الواقعية صفة العلمية ولو غابت عنها بعض شكليات المنطق العلمي التقليدي. وهي قد تُحقِّق ما هو أبعد على صعيد النتائج من حيث هدف العلم في معالجة المشكلات، مما قد يُحققه البحث العلمي الذي لا يقدِّم معالجات واقعية أو يكتفي بالتوصيف. لذلك نجد أن بعض الكتب والتي لا تحتوي على أي مصدر أو مرجع علمي تنطبق عليها صفة الكتب المرجعية والتي يمكن العودة اليها لمجرد أن كاتبها هو خبير في هذا المجال ولاتصافها بالواقعية في مقاربة المشكلة وتقديم المعالجة (على سبيل المثال بعض الكتب لنعوم تشومسكي أو محمد حسنين هيكل).
يكفي ما تقدم لإيضاح الإشكالية بين النُخب العلمية والقيادات السياسية. وهنا فإن اتصاف بعض القيادات السياسية المخضرمة بصفة الخبراء يجعلها من أهل التجربة ويُضفي على كلامها سمة المقبولية العلمية وبالتالي يُصبح طرحها واقعياً لمجرد صدوره عنها مع ضرورة لحاظ أن ذلك يتباين ويختلف بحسب مصداقية وتمكّن صاحب الرأي والمامه بالموضوع وحجم الخبرة وكيفية المقاربة. في المقابل، قد تشوب بعض نتائج البحث العلمي وجهد بعض النخب الكثير من المغالطات ويفتقد للعملية.
في مقاربة الشأن العام في لبنان، كثيرة هي المغالطات والتي يقع الأغلب في فخها. غياب فقه الدولة ومقاربة مشكلاتها بشكل جزئي، اعتماد المعايير التقليدية في مقاربة الحكم، إدارة الرأي العام بحسب المصالح الفئوية، غياب التخصص عن المُتصدين لإدارة الشأن العام، سوء استخدام المصطلحات المرتبطة بالحكم والدولة، انعدام التعاون وغياب قنوات التواصل بين القوى السياسية، ضعف السياسات الإعلامية وغياب الدور المطلوب من وسائل الإعلام في هذا الخصوص، بالإضافة الى جهل المواطن بحقوقه وواجباته وبالتالي جهله بما تعنيه علاقة المواطن بالدولة؛ كلها اشكاليات تتعلق بمقاربة الحياة العامة في لبنان حيث لم تنجح النُخب العلمية في توصيفها وتقييمها ومعالجتها بواقعية وهو ما تُشير اليه مسألة غياب القدرة على طرح مشكلات المواطن ومطالبه، بالإضافة الى سيادة لغة التوصيف على الخطاب السياسي وغياب الحلول وهو أكثر ما تجتمع عليه النخب العلمية والسياسية اليوم، والتي تفتقد طروحاتها للمعالجات.
حول دور النخب العلمية وغيابه وعلاقة ذلك بمشروع بناء الدولة يطول الكلام. ولعلي من المقتنعين بأن هذه النُخب هي المسؤولة الى حدٍ كبير عن الواقع الذي وصل اليه المواطن في الدول النامية عموماً وفي لبنان خصوصاً. فلا يمكن لأي نخبة سياسية حاكمة لأي نظام أن تفرض حُكمها على شعبٍ يمتلك الوعي السياسي. ولعل بداية تمرد الشعوب ليس إلا رسالة أبعد من مجرد مطالب معيشية. هو انعكاس لغياب الرضى عن أداء النظام السياسي وبالتالي هو إشارة الى فجوة في الوعي السياسي بدأت تظهر بين النخب السياسية والقواعد الشعبية.
بالنتيجة، إن من يريد الدولة عليه أن يُصلح نهج النُخب العلمية التي أفسدها مشروع التنافس فيما بينها، دون أن تجذبها المسؤولية الوطنية الى مشروع بناء التكامل فيما بينها والذي تُبنى على أساسه الدول وهو ما ينسجم مع مفهوم "الدولة"، كحالة كُلية (Holistic). لذلك فإن الدول تقدمت عندما تكاملت أدوار "النخب العلمية" فيها لخدمة القضايا السياسية التي تحددها "القيادة السياسية" الحكيمة. تقوم الدول على التكامل في الأدوار وهو البداية لأي مشروع تطويري يخص الشأن العام.
لبنان لا تنقصه القيادات السياسية ولا النُخب العلمية. لبنان يحتاج الى إعادة ترتيب للعلاقة بين نخبه السياسية والعلمية والمدنية والتي عليها تقوم عملية بناء الدولة. فمتى يتحول البعض من النخب والقيادات الى تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الفئوية؟ وهل سنُدرك أهمية المبادرة لإدارة هذا التحوُّل؟