دور دبلوماسي فرنسي جديد باتجاه روسيا وأميركا وايران
سركيس أبوزيد
ما زالت باريس مثابرة على إتصالاتها بشأن الملف النووي الإيراني والتوتر في الخليج الفارسي، رغم التغريدتين اللتين صدرتا عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي ذكر في إحداها الرئيس الفرانس ايمانويل ماكرون بالاسم، منبّها إلى أن أي أحد لا يحق له التكلم باسم الولايات المتحدة الأميركية. ومع إقتراب بريطانيا، منذ وصول بوريس جونسون إلى رئاسة الحكومة، أكثر فأكثر من مواقف واشنطن وسياساتها وآخر ما صدر عنها الإنضمام إلى المبادرة الأميركية الساعية إلى إقامة تحالف بحري يضمن حرية الملاحة في مضيق هرمز. فإن باريس تسعى إلى الوصول إلى حل هذه الأزمة دبلوماسيًا، ولا تخفي المصادر الدبلوماسية في باريس أن فرنسا ترى أن الخروج من أزمة الخليج الفارسي لا يتم من غير خطوات متوازية، بمعنى أنه يتعين على كل طرف القيام بخطوات تجاه الطرف الآخر. وهذه الفلسفة تتعارض تمامًا مع المقاربة الأميركية. رغم أن واشنطن أعربت أكثر من مرة عن رغبتها في الحوار مع طهران، ولكن من غير شروط أي مع بقاء العقوبات، بينما تطالب طهران برفع العقوبات للجلوس إلى طاولة التفاوض.
لكن باريس، وكما تقول مصادر دبلوماسية أوروبية، تحتاج إلى حلفاء، وروسيا يمكن أن تكون حليفًا. ذلك أن باريس وموسكو، وكلتاهما موقّعتان على الإتفاق النووي ومتمسكة به، تسعيان للمحافظة عليه من خلال تمكين طهران من الإستمرار في الإستفادة مما وفّره لها ومساعدتها على الإلتفاف على العقوبات الأميركية. لذلك فإن الرئيس إيمانويل ماكرون ماضٍ في دور الوسيط بين طهران وواشنطن، ويشعر أن لا أحد غيره في الميدان يستطيع القيام بهذا الدور لتلافي التصعيد وتبريد الأجواء في الخليج الفارسي.
هذا الأمر ترجمته باريس من خلال لقاء القمة بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المنتجع الصيفي لماكرون المسمّى "حصن بريغونسون". وقبيل قمة مجموعة السبع" التي عقدت بين 24 و 26 آب في منتجع "بياريتز" المطل على مياه الأطلسي.
يؤشر استقبال بوتين في حصن بريغونسون إلى رغبة فرنسية في المحافظة على إستقلالية السياسة والقرار السيادي الفرنسي
في الواقع، ثمة صلة زمنية وسياسية بين القمتين، حيث تحمل دعوة بوتين الى فرنسا، وتحديدًا إلى منتجع ماكرون الصيفي، قبل 5 أيام فقط من قمة مجموعة السبع، أكثر من رسالة، خصوصًا باتجاه الولايات المتحدة الأميركية. ذلك أن روسيا أخرجت من مجموعة الثماني التي تحولت إلى مجموعة السبع وفرضت عليها عقوبات أميركية وأوروبية في عام 2014 بسبب الحرب في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم. لذلك، فإن اختيار موعد زيارة الرئيس الروسي يمكن إعتباره بمثابة "إعادة تأهيل" جزئي لموسكو، كما تأتي أهمية قمة ماكرون - بوتين، أنها تناولت الأزمات نفسها التي طُرحت على قادة الدول السبع الكبار. من هنا، فإن ماكرون لعب دور صلة الوصل بحيث استطاع أن ينقل للقادة الآخرين حقيقة مواقف بوتين من الأزمات المشتعلة، كالوضع في شرق أوكرانيا، وملفات إيران، وأمن الخليج الفارسي، وسوريا، وليبيا، وترى باريس أن لروسيا تأثيرًا كبيرًا، ويمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في تناول هذه الملفات كافة.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤشر استقبال بوتين في حصن بريغونسون إلى رغبة فرنسية في المحافظة على إستقلالية السياسة والقرار السيادي الفرنسي. وتذهب مصادر الرئاسة الفرنسية أبعد من ذلك بتأكيدها لصحيفة "جي دي دي" الأسبوعية أن ما تريده باريس هو إبراز الرغبة في الخروج من الإصطفاف وراء واشنطن "لأن هذه ميزة الدبلوماسية الفرنسية"، ويوحي هذا الكلام برغبة فرنسا في إستعادة بعض "الخط السياسي الديغولي"، أي إستقلالية القرار عن واشنطن.
في الملف الإيراني، ثمة تقارب بين باريس وموسكو، وما تريده الأولى من الثانية المساعدة في الضغط على طهران من أجل خفض التصعيد في مياه الخليج الفارسي ووقف إنتهاكاتها للإتفاق النووي رغم خروج واشنطن منه. من هنا، يأتي أهمية أن يلعب بوتين دورًا، وفق باريس، في دفع الجانب الإيراني إلى وضع حد لتخليه عن بنود الإتفاق وتجميد الإجراءات التي اتخذها، وهدف باريس هو العودة بالملف إلى بداياته، وتوفير الظروف التي تسهل جمع الطرفين إلى طاولة المفاوضات.
مقترحات ماكرون تقوم على الطلب من واشنطن تجميد فرض عقوبات إضافية على طهران والسماح لها بتصدير كميات محدودة من نفطها
وهذا الأمر تجلى في توصيف قمة مجموعة الدول السبع في منتجع بياريتز الفرنسي بأنها كانت قمة الملف الإيراني و"قمة المفاجآت، فوصول وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف الى أرض القمة في ما يشبه عملية "إنزال دبلوماسي" شكل مفاجأة ومؤشرا الى وجود تغيير في مسار الأزمة الإيرانية - الأميركية، والى نجاح الوساطة الفرنسية التي قادها الرئيس إيمانويل ماكرون. تأكد هذا الإنطباع مع تفاؤل ماكرون وترامب، حيث أكد الأول أن محادثات قمة السبع هيأت ظروفًا لعقد إجتماع، وبالتالي إتفاق بين الرئيسين الأميركي والإيراني. بينما وصف الثاني إحتمال حدوث هذا اللقاء بأنه "إحتمال واقعي"، ملمحًا الى إمكانية أن يُعقد خلال أسابيع إذا كانت الظروف مناسبة، في إشارة الى إمكانية حصول اللقاء بين روحاني وترامب في نيويورك الشهر المقبل على هامش إجتماعات الأمم المتحدة، وفق معلومات تداولتها وسائل إعلام أميركية.
هذا إنجاز مهم للرئيس إيمانويل ماكرون، الوسيط الفرنسي نجح حيث فشل الوسيطان الآخران الياباني والألماني. وماكرون هو الوحيد المتواجد في ميدان التفاوض وقام بجهود مركزة لتليين مواقف الإيرانيين والأميركيين.
فمقترحات ماكرون تقوم على الطلب من واشنطن تجميد فرض عقوبات إضافية على طهران في إطار سياسة الضغوط القصوى والسماح بتصدير كميات محدودة من النفط الايراني. ومن الأفكار الفرنسية المطروحة إدخال الكميات النفطية المطلوبة في إطار الآلية المالية المعروفة باسم "إينستكس" والتي تسعى البلدان الأوروبية الثلاثة لتشغيلها.
قمة مجموعة السبع شكلت فرصة سانحة لـ"ماكرون" كي يطرح نفسه وسيطًا عالميًا في الملف الإيراني، أولًا لخفض التصعيد في الخليج الفارسي ودفع إيران للبقاء داخل الإتفاق النووي، وثانيًا لإقناع الولايات المتحدة والدول السبع بالتوافق على استراتيجية واحدة للتعاطي مع إيران.