سلاح العقيدة والكيان
احمد فؤاد
في مناسبات تاريخية معينة، وكبرى، تحتاج الأمم أول ما تحتاج إلى وقفة ضرورية مطلوبة، وملحة، تستطيع فيها أن ترى إلى أي مدى وصل بها الطريق وإلى أي حد مضت بها أقدامها، وقفة مراجعة الأهداف وحساب التكاليف وإعادة تقييم التغييرات الطارئة على معادلات الفعل والواقع، وقفة لا تصبح ارتدادًا عن الطريق، بل هي تجهيز لخطوة كبيرة أو قفزة هائلة على طريق تحقيق الأماني العظام.
اليوم، مع تزامن مناسبتين جليلتين في تاريخ الأمة الإسلامية والعربية، وهما إعلان الجمهورية الإسلامية في أول نيسان/ أبريل، ثم الاحتفال بيوم القدس العالمي في الرابع عشر منه، والمواجهات التي شهدتها فلسطين في شهر الله المبارك رمضان، والتغير الحاد في موقف الصراع بالمنطقة، وما استجد على أطراف هذا الصراع من ثقة ووحدة تظلل جانبًا وضعف وتضعضع يسيطر على الآخر، لا بد لنا من أن ننظر بعمق كيف كنا ثم كيف أصبحنا، وما الذي أوصلنا إلى هنا.
إننا نقف أمام لحظة تاريخية مجيدة، وفارقة، كلمة أطلقها رجل واحد في ثقة وإيمان، استطاعت بالإيمان والصبر والعمل المستمر الدؤوب أن تغير واقع أمة كاملة، حين اختار الإمام روح الله الموسوي الخميني (قده) أن يطلق صيحة الحق المدوية باعتبار الجمعة الأخيرة من شهر رمضان يومًا للقدس، كان يغير كل الثوابت والمعادلات التي وضعها الكيان وسيده الأميركي وتوابعه من الحكام العرب، كان يستدعي العقيدة والدين والقلوب إلى واجهة الصراع، ويضم صفوف المقاومة ويجمع كلمة الأمة ويلم صفوفها أمام التحدي القائم.
أدرك الإمام في لحظة الأزمة الكبرى أن العقيدة هي صلب القوة الإسلامية وأساسها، بل وقلبها الملتهب النابض، وبالتالي فقد كسر المزاعم الصهيونية والأميركية، والتي سقط في فخها الوعي العربي العام، بأن صراعنا هو على حدود 1967 أم خطوط هدنة 1949، وقدم قضية فلسطين ومركزية القدس فيها باعتبارها قضية إيمان كامل ضد كفر كامل، قضية واحدة واضحة قاطعة، لا تقبل المساومات ولا تخضع للمفاوضات ولا تعرف مهادنة ولا تردد.
أين كنا وكيف أصبحنا، في الحقيقة فإن إجابة هذا السؤال تكمن في معاينة الفارق المذهل بين كل معاركنا وحروبنا مع الكيان قبل/بعد نيسان 2023، فقد كانت إستراتيجية الكيان وقاعدته الأولى للعمل ضد الدول العربية تقوم على مبدأ الفصل بين الجبهات، فوق امتلاكه لعقيدة الردع أمام الدول العربية، مستفيدًا بشدة من انعدام العقيدة الوطنية والدينية عن الجيوش العربية التي واجهته في أي حرب، ليبعد عن أذهان وقلوب المؤسسات العسكرية العربية المحيطة أية أفكار للتورط من جديد في نزاع مسلح، مع خصم أذاقهم مجتمعين الهزيمة ورد جيوشهم إلى أوطانها مكللة بالعار، المرة بعد المرة.
منذ إعلان الكيان في 1948، ظلت الخلطة الصهيونية للعمل قائمة وفاعلة وناجحة، والإستراتيجية الصهيونية التي تبدو ثابتة في أية مواجهات عسكرية مع دول المواجهة العربية، تؤمن وتبني على أنه بإمكانها فصل الجبهات العربية، والاستفراد بكل جبهة في معركة واحدة، تضربها بكل ما أوتيت من قوة ومن سلاح لتحطمها، ومن ثم، تنتقل بعدها إلى جبهة أخرى، وأتت الخطة الصهيونية أكلها أمام العرب المثقلين بالهموم والتشرذم المروع، أصحاب النفس الأقصر في الحرب، الذين قد يتمكنون من حشد جهودهم بالفعل لمعركة، لكن إن طال الوقت تراخت التعبئة وضعفت الحماسة، ثم تنفجر شواغلهم وخلافاتهم الداخلية وتأخذهم إلى طرق أخرى بعيدة عن التي جمعت بينهم في البداية.
العقيدة التي مثلها اختيار الإمام الخميني (قده) للقدس كشعار للصراع فرضت على الجبهات العربية المقابلة للكيان وحدة العمل المقاوم، وبالتالي حين ردت غزة والضفة ولبنان وسوريا على الإجرام الصهيوني غير المسبوق بحق المسجد الأقصى، درة التاج وقلب الصراع، فقد وقف الكيان الصهيوني لأول مرة في موقف العاجز غير المصدق ولا المستوعب لحجم ما أصابه من ضربات.
يكفينا للإشارة إلى ما تغير من معادلات قوة في المنطقة إلى خطاب سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، وهو يضع النقاط النارية على الحروف المغموسة بالدم، وقد قال في خطاب يوم القدس العالمي نصًا: " أي عمل أحمق في القدس أو الضفة أو غزة أو لبنان أو سوريا قد يجر المنطقة إلى حرب كبرى"، بل وهدد الكيان المرتعش وحكومته الهشة بقوله الذي صار عنوانًا للخطاب الفاصل "منشوف"، دلالة على أن التهديدات الجوفاء الصادرة من الكيان تمثل لحظة ضعف، ورسالة للداخل المنهار بفعل تبدد قدرته على الردع، أكثر من كونها خطرًا على المقاومة.
اليوم وبعد عقود طويلة من هذه الصرخة السماوية، والسير في درب الآلام المعمد بالفداء والدم والعرق، نستطيع أن نقول ـــ مطمئنين إلى صحة القول ودقته ـــ إن الأمة أخيرًا وجدت طريقها الصحيح لإزالة هذا الورم السرطاني عن جسدها، وأن القوة والقدرة على الفعل لدى محور المقاومة لم تعد كل إمكانيات الكيان وكل قوة حماته الغربيين قادرة على وقفه أو على رده وردعه.
إن ما جرى في هذا الشهر الفضيل، والذي شهد لأول مرة تغيير أقدارنا الجماعية في مواجهة عدونا الصهيوني ومشغله الأميركي، تعد حقيقة فرصة العمر لهذه المنطقة وشعوبها، والتي وضع فيها محور المقاومة جماع طاقته وسخر لها كل إمكانياته وموارده، وضحى في سبيل الوصول إليها بأعز الناس وأغلاهم وأكرمهم، وفي ظرف دولي دقيق تتغير فيه مواقع القوى الكبرى وتتبدل مقاعد القيادة العالمية، فإن استغلال هذه اللحظة المجيدة إلى أقصى حد ممكن هو مطلب حيوي يتعلق به مستقبلنا لعقود ـــ وربما قرون ـــ قادمة، وإن فلتت هذه الفرصة التاريخية فإن سنوات طويلة من العسر والألم في انتظارنا، مصيرًا جماعيًا شاملًا، ليس فيه فصال وليس لنا منه مناص، إننا أمام سؤال الحياة أو الموت، القدرة أو العجز، الحل أو السقوط.