إردوغان يعود إلى المربّع الأول: "شريط آمن" على طول الحدود السورية
جو غانم
تشير المعطيات إلى وجود "غضّ طرف" حقيقيّ عن عملية محدودة تقوم بها أنقرة لإضعاف الكرد وصولاً إلى إجبارهم على الجلوس إلى الطاولة.
على وقع الضربات الصاروخية الجويّة التركية التي بدأت قبل أقلّ من أسبوع، والتي يمتد ميدانها من أقصى الشرق السوري في ريف مدينة "المالكية" عند المثلث السوري ـ العراقي ـ التركي وباقي ريف محافظة الحسكة، إلى الريف الحلبي الشمالي في مدن وبلدات عين العرب ومنبج وتل رفعت، مروراً ببلدة عين عيسى في ريف الرقة ونقاط في محافظة دير الزور، يؤكّد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أنّ ما يجري "ليس سوى البداية" لخطّة تركية قديمة يبدو أنّه يُصرّ على إتمامها، مقتنصاً كلّ فرصة سياسية أو عسكرية أو "إرهابية" سانحة للمضي قدماً فيها.
هذه الخطة تتلخّص في إقامة "شريط حدودي آمن" أو "منطقة آمنة" تمتد ثلاثين كيلومتراً داخل الأراضي السورية وعلى طول الحدود تضمن له إبعاد المجموعات الكردية عن الحدود التركية، وإعادة أكبر عدد من اللاجئين السوريين قبل الانتخابات الرئاسية المرتقبة في تركيا.
وإنْ كانت العملية الإرهابية التي استهدفت "شارع الاستقلال" في مدينة إسطنبول في 13 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي قد شكّلت ساعة الصفر المعنوية "الوطنية" لإردوغان، فإنّ الظروف الاستثنائية التي تعيشها روسيا وإيران خصوصاً، والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا عموماً، المرتبطة بالصراع في أوكرانيا والاحتجاجات في إيران، هي كلمة السرّ السياسية التي وجد فيها الرئيس التركي أفضل مادة يبدأ بها لعبة الابتزاز التي لطالما برع في استخدامها طوال السنوات الماضية.
بدأت الغارات التركية تحت مسمّى عملية "المخلب – السيف" على مناطق الشمال السوري في 20 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، بقصف مواقع في ريف حلب الشمالي والشمالي الغربي ومنها عين دقنة، عين العرب، تل رفعت، عين عيسى، وريف مدينة المالكية في أقصى الشرق، ولم تتوقف حتى اللحظة.
وقد استهدفت حتى الآن أكثر من 100 موقع تابع لميليشيا "قسد"، مخلّفة ما يقرب من 326 قتيلاً بين صفوف المقاتلين الكرد، بحسب تصريحٍ للرئيس التركي يوم الجمعة في الـ 25 من هذا الشهر، فيما أعلنت "قوات سوريا الديمقراطية"، في بيان صدر عن "المركز الإعلامي" التابع لها في الـ 26 من الشهر نفسه، أنّ الغارات التركية استهدفت 77 قرية وبلدة ومنشأة مدنية في يومين فقط.
وقد جاء في البيان أنّ مجموعات سورية معارضة، وصفها البيان بالمرتزقة وتعمل بإمرة أنقرة، حاولت التسلل تحت غطاء الطيران التركيّ المسيّر، إلى منطقة زرقان في شمال غربي محافظة الحسكة، لكنّ المجموعات الكردية صدّتها وأسقطت 6 قتلى بين صفوفها. كذلك تعرضت منطقة عفرين وجوارها للقصف بأكثر من 406 قذائف صاروخية، و39 قذيفة هاون، و350 قنبلة مقذوفة، في الوقت الذي تعرّضت مناطق عين العرب وتل أبيض وتل تمر ومنبج لعشرات القذائف من المدفعية الثقيلة وقذائف الهاون.
وبينما يستمر القصف الجوي والمدفعي التركي لعموم النقاط في الشمال السوري، من دون أيّ حديث صريح عن عملية عسكرية شاملة، استقدم الجيش التركي ثلاث فرق عسكرية برّية إلى منطقة إعزاز قرب الحدود التركية السورية في إشارة إلى احتمال بدء عملية برية تصفها بعض المصادر التركية بالمحدودة، وذلك بعد اجتماع المندوب العسكري التركي بقادة المجموعات المسلحة التابعة لأنقرة في الشمال السوريّ، ومنها "هيئة تحرير الشام" التي يقودها أبو محمد الجولاني، فحضهم على التأهّب والاستنفار التام استعداداً لإقحامهم في عملية برية قد تكون تلك المجموعات هي نواتها العسكرية الأساسية، مع إسناد جوّي وبريّ مدفعيّ وصاروخي تركيّ.
يعتقد إردوغان أنّ الظروف الدولية ملائمة جدّاً لعمليّة تقضي على القوات الكردية أو تُضعف قوتهم العسكرية الرئيسة وتبعدهم نحو الداخل السوري على أقل تقدير، ويبدو أنّ مباحثاته الأخيرة مع الروس والإيرانيين قلصت ومخاوف الدولتين ورفضهما عملية كهذه، خصوصاً أنّ الرئيس التركيّ استشهد بالمخاوف الروسية التي دفعت موسكو إلى إطلاق عمليتها العسكريّة في أوكرانيا، إذ يرى إردوغان أنّ الوضع في الشمال السوري مشابهاً إلى حدّ كبير لجهة "حماية الأمن القومي التركي"، ما يعطيه الذريعة للقيام بالمثل.
كما أنّ تورّط المجموعات الكردية العاملة في إقليم كردستان العراق في دعم الاحتجاجات في إيران والقيام بعمليات داخل الحدود الإيرانية، ربّما كان ورقة أخرى دفعها إردوغان على الطاولة مع الإيرانيين والروس، وأفضت إلى إزاحة الفيتو الروسي ـ الإيراني الذي كان قائماً طوال السنوات الأخيرة.
وقد بدا من البيان الذي نتج عن اجتماع أطراف "أستانة" الأخير المنعقد في 22 و23 من الشهر الحالي، والذي جاء عائماً وعاماً ومقتصراً على اعتراف الأطراف الثلاثة بسيادة ووحدة الأراضي السورية، أنّ المباحثات خلف الكواليس قد ذهبت بعيداً في الحديث عن "العائق الكردي" و"خطر المجموعات الانفصالية الكردية" ووجوب وضع حدّ لها.
وتشير المعطيات إلى وجود "غضّ طرف" حقيقيّ عن عملية محدودة تقوم بها أنقرة لإضعاف الكرد وصولاً إلى إجبارهم على الجلوس إلى الطاولة بعيداً من الضغط الأميركي الذي منع أيّ تسوية معهم طوال سنوات الحرب السورية، خصوصاً أنّ واشنطن لم تصنع شيئاً للكرد بعد أسبوع من القصف التركي سوى بيانات الاعتراف بـ"مخاوف تركيا الأمنية المشروعة"، والتخوّف من "تهديد سلامة الجنود الأميركيين" في مناطق "قسد"، وذلك بعد استهداف الطيران التركي قاعدة عسكرية فيها جنود أميركيون ومقاتلون من "قسد" قرب سدّ الحسكة الغربي.
أما البيانات الأميركية فتطرقت بعد ذلك إلى التخوّف من تأثير الضربات التركية في عملية محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، وترى واشنطن أنّ "قسد" تلعب دوراً رئيساً فيها. وقد ترك هذا كلّه انطباعاً قويّاً لدى الكرد بأنهم تُركوا وحدهم في الميدان، ما دفع المتشددين منهم، ولا سيما قيادات جبال قنديل، إلى بثّ الرح القومية لدى الكرد وحضّهم على القتال بكلّ ما يستطيعون من قوة، فيما استنجد بالروس بعض قياداتهم السياسية، وعلى رأسهم مظلوم عبدي، وطلبوا إلى الجيش العربي السوريّ القتال جنباً إلى جنب مع "قسد".
وبصرف النظر عن حدود وخطوط أيّ "تفاهم" تركيّ مع الروس والإيرانيين، فإنّ كلّ المؤشرات تقود إلى وجود عزم لدى الرئيس التركي على المضي في مخططه الذي يستهدف إقامة "منطقة آمنة" على طول شريط الحدود مع سوريا، وهو ما أعلنه إردوغان فعلاً في كلمة له يوم الجمعة في الـ 25 من هذا الشهر لمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، إذ قال: "بفضل الحزام الأمني الذي نُنشئه خارج حدودنا، سندافع عن حقوق الملايين من النساء والأطفال الأبرياء. إن شاء الله سوف ننجز هذه المنطقة على طول حدودنا كلها من الغرب إلى الشرق".
وقد تحدث الرئيس التركي عن مناطق تل رفعت ومنبج وعين العرب كجزءٍ أساسيّ من هذه المنطقة المفترضة، ما يعني أن نية تركيا القيام بعملية بريّة حاضرة بقوة، وتنتظر الوقت الملائم الذي لم تحدده أنقرة بعد، بل تُشير إليه على أنه قريب وعاجل.
وإذ تُصعّد قوات الجيش العربي السوريّ والقوات الجوية السورية ـ الروسية عملياتها ضد المجموعات المسلحة والجماعات الإرهابية في ريفيّ إدلب وحلب، فلا يزال الحديث عن تقارب سوريّ ـ تركيّ قائماً وحاضراً بقوة، وخصوصاً بعد التصريحات الروسية الأخيرة التي تزامنت واجتماع أستانة، والتي تناول بعضها احتمال عقد لقاءٍ بين الرئيسين السوري والتركي في موسكو، وتصريحات إردوغان يوم الجمعة في 25 من هذا الشهر عن احتمال الاجتماع بالرئيس السوريّ بعد الانتخابات الرئاسية التركية، وعن عدم وجود عداوات دائمة في السياسة، ولكن دمشق تصرّ على التعاطي مع المباحثات مع الأتراك ومع تصريحات المسؤولين هناك بحذر شديد، إذ لا تثق دمشق إلا بالأفعال، على حدّ تعبير الرئيس السوريّ بشار الأسد في لقائه إعلاميين سوريين الأسبوع الفائت.
تعرف سوريا جيّداً أنّ أي توغل عسكري بري تركي في الأراضي السورية سينتج عنه احتلال جديد لطالما تاق إليه إردوغان، ولذلك ستمنع سوريا هذا الأمر بكل ما تستطيع من قوة، وهنا قد يقع العبء الأكبر على حلفاء سوريا، روسيا وإيران، في إقناع إردوغان بإجراء عملية محدودة قد يُقابلها السوريون بالتمدّد داخل أراضيهم في الشمال، أي أنْ يأخذوا مواقع المجموعات الكردية ويصلوا إلى صيغة "اتفاق أضنة" الذي ترى فيه موسكو وطهران حلاً ملائماً لهذه المسألة.
يبقى أنْ يقتنع الكرد بأنهم متروكون لمصيرهم من الأميركيين والحكومات الغربية، ويلتزموا ما فيه مصلحة سوريا التي ينتمون إليها، ويعودوا إلى العيش تحت مظلّة الدولة السورية، ولا يبدو أنّ قيادات "قسد" العسكرية قد وصلت إلى هذه القناعة بعد، لكنّ الرشقات الصاروخية الأخيرة على قاعدة الاحتلال الأميركيّ في "حقل العمر"، وما قد يليها من عمليات مقاومة ضد الأميركيين في الأيام المقبلة، وهو ما تناوله الرئيس الأسد وأكّده في اجتماعه هذا أيضاً، قد تُساعد في توقّد البصيرة الكردية أكثر.