أوروبا جوكر أميركا: متى ستقرّ بهزيمتها في أوكرانيا!
د. عدنان منصور
كلّ الذين علقوا الآمال الكبار على الولايات المتحدة، وارتموا في أحضانها، واحتموا بها مذ أطلّت على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، بوجه مقنع، منصّبة نفسها مدافعة عن الحرية، وتقرير مصير الشعوب، وحامية للديمقراطية وحقوق الإنسان، متى سيدركون أنّ مصالحها، وحروبها، فوق كلّ اعتبار، طالما أنها تخدم أهدافها وسياساتها الاستراتيجية، وتعزّز نفوذها، وسيطرتها، واستغلالها لدول العالم، والتحكم بقراراتها ومصيرها!
بعد الحرب العالمية الثانية، اعتبرت واشنطن أنّ الشيوعية، تمثل التهديد الحقيقي المباشر للنظام الرأسمالي. وما دامت أوروبا خرجت من الحرب منتصرة على النازية سياسياً، إلا أنها كانت مدمّرة اقتصادياً ومالياً، واجتماعياً، وبشرياً، ومعيشياً. كان لا بدّ من الولايات المتحدة أن تسرع عام 1948، لنجدة أوروبا الغربية وإنقاذها من براثن الشيوعية، بعد أن نصّبت دبابات ستالين بعد الحرب، الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية الواحدة تلو الأخرى، والتي أصبحت بعد سنوات قليلة عام 1955 الدعامة العسكرية لحلف وارسو في وجه الحلف الأطلسي.
ثلاثة عشر مليار دولار قدّمتها واشنطن لدول أوروبية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، وغيرها، من خلال مشروع مارشال، لتمكينها من الوقوف على قدميها، حيث كانت تعاني من أوضاع صعبة للغاية، وتواجه أحزاباً شيوعية قوية في أوروبا الغربية، لا سيما في فرنسا وإيطاليا. مع العلم أنّ قيمة أونصة الذهب في ذلك الحين، كانت تبلغ 35 دولاراً، وأن القوة الشرائية لـ 13 مليار دولار، توازي في وقتنا الحاضر حوالي 635 مليار دولار.
منذ ذلك الوقت، أصبحت أوروبا الغربية حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة، تتحرّك تحت جناحها وهي تستلهم منها المواقف والقرارات، وتحرص على مجاراتها، وتأييد سياساتها ذات الصلة بالقضايا الدولية، حتى وإنْ جاء ذلك على حساب قيمها، ومبادئها وسيادتها، واستقلالية قرارها الحر، وصدقيتها تجاه شعوب العالم.
بقيت العلاقة الأوروبية ـ الأميركية على مدار ثمانية عقود، بين تابع ومتبوع، وإنْ أراد زعماء أوروبا أن يطلوا على العالم بصورة مزيفة، مغايرة للواقع، وبهالة لا تعكس الحقيقة الدامغة، وهي هيمنة وتأثير واشنطن البالغ على القرار الأوروبي حيال المسائل والمشاكل الدولية الحساسة.
كان بإمكان الاتحاد الأوروبي أن يعزّز استقلاله أكثر فأكثر، ويتحرّر من ضغوط وإملاءات أميركا، وتأثيرها الكبير على العديد من قادتها الذين يستجيبون لطلباتها، ورغباتها. الا انّ ذلك لم يحصل، بل آثر الاتحاد الأوروبي السير في ركاب واشنطن دون تحفظ ليورّط نفسه طوعاً، وينغمس في الحرب الأوكرانية، استجابة لإرادة الولايات المتحدة، وتماشياً مع خطتها بعيدة المدى في أوروبا.
لم تتوقف واشنطن يوماً، منذ انتهاء الحرب العالمية عام 1945 عن استخدام الوسائل كافة، لتطويق الاتحاد السوفياتي. ولم تتردّد بعد تفككه، في «محاصرة» روسيا الاتحادية، رغم تغيير النظام الشيوعي، وأفول حلف وارسو، والسير في نظام الاقتصاد الحر. إذ كانت واشنطن من خلال سياساتها الاستراتيجية، تهدف دائماً الى تقليص دور روسيا، وتحجيمها على الصعيد الدولي، ووضعها في خانة العداء، نظراً لما كانت تشكله بالنسبة لها من هواجس مقلقة، وتحدّ كبير لزعامة أميركا الأحادية على العالم.
لقد عملت واشنطن مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي بكلّ قوتها، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه، على إنهاك روسيا، وضرب اقتصادها، وإغراقها في الفوضى، وجعل صندوق النقد الدولي يقبض على اقتصادها، وتحويلها الى دولة عادية في العالم. إذ أنّ الولايات المتحدة، التي أمسكت بأوروبا على مدى عقود، لا يناسبها مطلقاً تقارب روسي أوروبي فاعل خاصة بعد أن تجاوزت روسيا مشاكلها الاقتصادية، واستطاعت أن تشقّ طريقها بسرعة، وتنهض باقتصادها، وقدراتها العسكرية الهائلة، لتعود مجدداً الى الواجهة العالمية، بزخم عالي الوتيرة، لتؤدّي دورها الفاعل مع قوى عالمية صاعدة أخرى، تتصدّى لنفوذ الولايات المتحدة، وهيمنتها على القرار الأحادي العالمي.
لذلك كان لا بدّ لواشنطن من مواجهة روسيا، وضربها من الداخل وبالواسطة، فكانت أوروبا، كبش السياسة الأميركية وجوكرها، حيث أنيطت بها المهمة لتركيع روسيا ومن ثم تفكيكها من الداخل، من خلال تحريك النزعات العرقية والقومية، وإشعال الفتن، والاضطرابات، والثورات الداخلية فيها.
كان على دمية أميركا زيلينسكي، ان يتولى المهمة لزجّ روسيا في حرب لا تريدها أساساً، وإنْ كانت مكرهة عليها. لقد راهنت واشنطن على رئيس أوكرانيا المتهوّر، ودفعته ليجعل من بلده خنجراً غليظاً يغرز في خاصرة روسيا. لكن زيلينسكي الواهم، لم يستطع إلحاق الهزيمة العسكرية بموسكو، إذ ترنح أمام الجيش الروسي، ولم يحقق لواشنطن ما أرادته من آمال علقتها عليه. فما كان على الولايات المتحدة، إلا أن تسير بجوكر أكبر من زيلينسكي، لتزجّ أوروبا كلها في مستنقع حرب هي بغنى عنها، وفي وقت تفتقر فيه القارة العجوز إلى قادة كبار حكماء كشارل ديغول وكونراد أديناور، ليتجنّبوا الحرب التي يخوضونها نيابة عن الولايات المتحدة ضدّ روسيا، بأموال الشعوب الأوروبية.
هذه الحرب أسفرت بسرعة غير متوقعة، عن تدهور الأوضاع الاجتماعية في أوروبا، ودول عديدة في العالم، وضىرب اقتصاداتها، وارتفاع أسعار السلع فيها، وتدني مستوى معيشتها، بالإضافة الى حراك لافت لمجموعات الضغط الشعبية، التي تطالب بالتوقف عن دعم الحرب العبثية فوراً من جيوب دافعي الضرائب، والعمل على استئناف الحوار مع موسكو، وإلغاء العقوبات المفروضة عليها.
بعد ثمانية أشهر ونصف الشهر بالضبط، من بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، هل تدرك أوروبا اليوم، وهي أمام منعطف خطير، أنّ ما يجري في أوكرانيا، هو أتون حرب جعلت منه واشنطن محرقة لاقتصادات أوروبا، وخزائنها المالية! والأخطر من ذلك، ما يمكن أن تحمله الأيام لها، لجهة مستقبل الاتحاد الأوروبي، ومعرفة ما إذا كان باستطاعة أوروبا بعد انتهاء الحرب الأوكرانية، وانتصار روسيا المحتّم، قادرة على امتصاص التداعيات الكارثية عليها، وتماسكها، والحفاظ على صلابة، ووحدة الاتحاد الأوروبي واستمراريته، حيث بدأت الأصوات ترتفع بقوة في أكثر من دولة فيه، تطالب بالانسحاب منه!
إنها ليست مشكلة الولايات المتحدة، التي تعمل لخدمة مصالحها، لكن المشكلة تكمن في عقول المغفلين، والمغامرين، والمقامرين، من قادة أوروبيين، تورّطوا بحرب أرادتها لهم أميركا، كانوا بغنى عنها.
غداً سيعلم القادة الأوروبيون مدى الحماقة التي ارتكبوها بحق شعوبهم، عندما أذعنوا لسياسات وأوامر اليانكي الأميركي، الذي جعل منهم مطية، ووقوداً لحرب يحصد منها ما يخدم مصالحه، ولتصبح أوروبا في ما بعد أكثر خوفاً وقلقاً، وارتباطاً، وانتماء، وارتماء في أحضان الولايات المتحدة.
إذا كان مشروع مارشال قد أنقذ أوروبا وجعلها أكثر التصاقاً وتبعية لواشنطن، فإنّ مشروع زيلينسكي الأميركي، أغرق أوروبا، وجعلها تبحث مجدّداً اليوم عن منقذ ينتشلها من المستنقع الذي غرقت فيه. فهي لن تجد أمامها ليرمي لها طوق النجاة، وهي مرغمة، سوى القرصان الذي أغرقها من وراء المحيط، حتى ولو بقيت تؤدّي الدور نفسه الذي لازمها منذ ثمانية عقود وحتى اليوم.