«سي أي آي»: من الربيع العربي إلى الصقيع الأوروبي
ميرنا لحود
بعد حقبة الحادي عشر من أيلول، بدأت السياسة الأميركية الشيطانية تظهر بوضوح وشراسة أكثر فأكثر. فالعمليات الجراحيّة التخريبية في كافة البلدان دليل صارخ، إضافةً إلى تصريحات المسؤولين السابقين، تحديداً من أميركيين والغرب عموماً، الذين يعترفون بحقيقة الأهداف لاجتياحهم العراق وأفغانستان ودعمهم الثورات الملوّنة والإخوان المسلمين والوهابية و»تخريجة» الربيع العربي والعدوان على سورية وصولاً إلى الاحتكاك المتعمّد بروسيا في أوكرانيا و»التحرّش» بتايوان.
لائحة كبيرة من الإجرام والاعتداء على كلّ من يطمح للاستقلال وتحسين المجتمع انطلاقاً من الدين والاجتماع والاقتصاد والتعاضد والتكاتف خوفاً من أن يصبح البلد نموذجاً يُحتذى به. فالمتحرّر والذي هو على «بصيرة عالية منذ البداية» يرفض الهيمنة مهما كانت حجّتها.
كتب (هنري كيسنجر) «مهندس الوقائع»: «من يسيطر على المواد الغذائية يتحكم بالشعوب. ومن يسيطر على النفط يتحكم بالأمم. ومن يسيطر على العملة يتحكم بالعالم». وها نحن في عين العاصفة ويبدو أنّ المقولة في صدد تحققها.
«سي أي آي» والعالم
إنّ «سي أي آي» هي من تحكم العالم وتتحكم به. وعناصر الـ «سي أي آي» منخرطة في حركات عالمية مثل الماسونية الصهيونية المنظّرة والمخططة للاستراتيجيات الهادفة إلى بسط السيطرة على العالم مهما كلّف الأمر حتى ولو تطلب ذلك إلى شنّ حروب ضارية. وتعمل بجهد على إخضاع الرأي العام العالمي وفق منهجية موجهة ومحددة. وكان لا بدّ للمؤسسة الشيّطانية من إيجاد أحزاب مثل الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري لاستخدامهما في تخاصم دائم وإظهار الاحتدام أمام الشاشات، الأمر الذي يستقطب الأنظار لتذهب هي إلى الأهم وبعيداً عن أنظار المراقبة. لا فرق بين الأحزاب إلاّ أنّ الواحد يغدو إلى الشر أماّ الثاني فيتعانقه مع سدول الليل. لم تكتف المؤسسة بهذا القدر إنما جاهدت لتتفرّع منها مؤسسات أخرى تحت مسمّيات مغرية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة، واليونيسف، ومنظمة الصحة العالمية، وغيرها. وهكذا تكون قد وفرت لها مدخلاً آمناً بعد نجاحها في الانقلابات والتحريض ودفع الثورات الملونة والاقتتال الداخلي للبلدان لتضع يدها على المصادر خاصة الموانئ والمطارات والصحة (لإدخال الأدوية واللقاحات ذات الأرباح العالية لها) والمؤسسة الأمنية لتتصرف كما لو أنّها صاحبة «الحق» في الداخل. وبالطبع تعمل بعدها على تطويع العدالة داخلياً كما هي الحال دولياً بالنسبة إليها. ولا بدّ من الذكر بأنّ السلطة العليا لـ «سي أي آي» هي شبكات الأموال من بنوك وتجمع شركات مع شعار يتصدّر ويعلو كلّ شيء: «القوة».
فبعد ضرب المجتمعات تختفي المنظمة وراء «عقائد النّوايا الحسنة» (نعوم تشومسكي) من طراز حقوق الإنسان والديمقراطية ومنظمات اليونيسف التي من خلالها وبواسطتها يتمّ تدريجياً إدخال برامج مناهضة للديانات التوحيدية. كما أنها تشجّع وسائل الإعلام التي هي في قبضتها داخلياً وعالمياً لانزلاق المستوى الأخلاقي والتربوي والثقافي. ومن هنا تبثّ «سي أي آي» سياساتها الضاغطة لسلب العقول وإدخال المخدرات وشبكات الدعارة من خلفية «الانفتاح « سواء كان في الأفلام أو الوثائق على الشاشات وصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات لألعاب جماعية أو فردية. فتترك كتب الوعي على الرفوف لتحلّ شاشات اللاوعي محلها. كلّ ذلك مراقب ويذهب إلى «صندوق المعلومات» لدى المخابرات الأميركية التي تستخدمها لاستراتيجياتها مستعينةً بالعلوم والتطور التقني في علم النفس والأمراض النفسيّة وحتى الجسدية. كما أنها تفتعل الصدمات كونها عاملاً أساسياً للحصول على ما تريده «سي أي آي» دون تكلفة. فعنصر الخوف يسرّع من اقتلاع ما يصعب اقتلاعه. وهو سلاح فتّاك وغير مكلف مقارنةً بالعمليات العسكرية. فالخوف فنّ من فنون الحرب.
في غالبية الأحيان، هناك تنسيق بين «سي أي آي» والرؤساء المتعاقبين على البيت الأبيض. هم بالأحرى موظون لديها. فإنّ جورج بوش الأب كان مديراً للمؤسسة الاستخبارية. وبوش الابن كان في جمعية سرية مع جون كيري تدعى «جمجمة وعظام» Skull and bones .
وشعار هذه الجمعية القوة المطلقة فهم لا يحترمون إلاّ القوي. لا إله لهم ولا ولاء إلاّ للشيطان. ولا معنى لهم لديمقراطي أو جمهوري. كلّ ما يهمّ: «من هو الذي يقف مقابل قوتهم» المتغطرسة حتى ولو دفعتهم فظاظتهم لاستخدام الأسلحة الكيماوية. هؤلاء لا يقبلون بالهزيمة. يبقون على المناورة حتى يرضخ الآخر ويستسلم. مشهد اختبر في ليبيا والعراق وسورية واليوم في الحرب على روسيا في أوكرانيا. هذا بعض من أمثلتهم.
أوروبا على موعد مع الصقيع
لا يستطيع قادة الاتحاد الخروج عن الطاعة الأميركية لأنّهم موظفون عند الأميركي وتمّ اختيارهم ليقدّموا الخدمات ويطّبقوا المطلوب منهم. كذلك الأمر بالنسبة للسلطة المالية المدعومة من البنك الفدرالي ويبدو أنّها مفلسة وفقاً لتقارير إعلامية غير خاضعة للأوليغارشية.
ويصرّح القادة الأوروبيون وبكلّ وقاحة وعلى حساب شعوبهم عن «دعمهم لأوكرانيا، حتى لو تمرّد الناخب عليهم». «فمواقف الناخب لا تهم»!
إنّ هذا النوع من التصريحات ما كان ليمرّ لولا الدفع الأميركي والإعلام المسيطر والمضغوط عليه بشكل عام في أوروبا. لذا لن تتحرك الشعوب في القارة العجوز. قد يختلف الأمر في إيطاليا لأنّ «سي أي آي» كانت دائماً تراقب التحرك الإيطالي وتهابه لصعوبة ضبطه لكن القادة في أوروبا يتمّ شراؤهم بسهولة لقلة الخبرة في السياسة والثقافة في الفهم والتفرقة بين الخصم وغيره. إذن أوروبا في مأزق حقيقي والمشهد بدأ يتجلّى مع توافد الفواتير والتي تنبئ بالخطر المقبل ليس فقط على الاقتصاد إنما على المجتمع الأوروبي المنقسم أصلاً على نفسه. والمعروف أنّ «المملكة المنقسمة على نفسها لن تستقيم». ستكون الأمور صعبة لأنّ حقبة «كوفيد» فرّقت المفرّق وأبعدت الناس عن بعضهم البعض أكثر فأكثر. وإذا كان حجم الكذب قد طال الشعوب على حساب صحتهم فماذا عن الكذب الذي يتعلق بالملفات الأخرى؟ فصقيع أوروبا سيتوسّع ليصبح تسونامي «البرد».
العالم يشهد اليوم حقبةً جديدة وهي الأزمة الإنسانية الاجتماعية نتيجة أزمة الطاقة. ومن يقرأ سياسة «سي أي آي» يعرف أنّ الصراع يدور على الشر والخير. إذاً نحن في مواجهة بين التنين العملاق الذي يريد ابتلاع من يحاربه بإيمانه والثابت بعقائده. إنّه من غير الممكن أن يبتعد الإنسان المؤمن عن الخالق ليعبد ما هو من صنيعة الإنسان أو الشيطان. إنّ الرسائل الروحانية في الخطابات السياسية تحضر بقوة وهي دليل قاطع على أنّ الأمور لم تعد تحتمل ولن تمرّ دون خوض معارك. فالوقوف بوجه هذه الموجة الشعواء هو أمر لا مفرّ منه. والدفاع بشراسة عن القيم الإنسانية لا يستطيع أن يفهمها إلاّ المؤمن بحق وثبات.