السعودية.. التطبيع المتدحرج يسقط ورقة التوت!
شرحبيل الغريب
اللاعب الرئيس في قضية التطبيع مع دول المنطقة هو السياسة الأميركية، وهذه السياسة تمثّلت عملياً في نجاح الرئيس الأميركي جو بايدن في زيارته الأخيرة للشرق الأوسط في جرّ وتطويع السعودية لفتح مجالها الجوي أمام "إسرائيل".
شهدت المملكة السعودية في عهد محمد بن سلمان انعطافاً واضحاً في سياستها الخارجية إزاء الاقتراب من "إسرائيل"، حالة تحول قديمة جديدة ترجمتها السياسة السعودية بمواقفها الأولى تجاه مسلسل التطبيع مع "إسرائيل" في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، مذ وقفت صامتة غير رافضة لما قامت به الإمارات والبحرين من توقيع اتفاقية تطبيع رسمية مع "إسرائيل".
عملياً، وفق كل القراءات السياسية، فإن الموقف السعودي إزاء التطبيع البحريني الإماراتي مع "إسرائيل" يعد موافقة ضمنية سعودية ويعكس حالة من الرضا تجاه مسار التطبيع، فالبحرين تمثل الساحة الخلفية التي تعبر عن السياسة السعودية. والمتتبع لمسار السياسة السعودية الرسمية أخيرًا يستنتج رغبة كبيرة في الانخراط أكثر في مسلسل التطبيع، حتى لو لم يعلن ذلك رسمياً، فالخطوات المتسارعة التي كانت تجرى قديماً على استحياء أصبحت، اليوم، تمارس لعلناً، ولم تعد بحاجة إلى راعِ لتشجيع السعودية على التطبيع العلني مع "إسرائيل".
خطوات السعودية نحو التطبيع تترسّخ يوماً بعد آخر، وأكثر فأكثر، وفقاً لكل المجريات التي تفسر أنها تحدث بهدف تهيئة البيئة السياسة سعودياً وعربياً وخليجياً، لتقبل "إسرائيل" دولة يمكن التعايش معها في المنطقة، وهذا ما صرّح به علانية ولي عهد السعودية محمد بن سلمان لمجلة "ذي أتلانتيك" الأميركية بلغة لم نعهد لدى حكام السّعودية من قبل فقال:" إن بلاده لا تنظر إلى "إسرائيل" كعدو بل تنظر إليها كحليف محتمل، وهناك مصالح كثيرة يمكن أن تحقيقها معها".
اللاعب الرئيس في قضية التطبيع مع دول المنطقة هو السياسة الأميركية، وهذه السياسة تمثّلت عملياً في نجاح الرئيس الأميركي جو بايدن في زيارته الأخيرة للشرق الأوسط في جرّ وتطويع السعودية لفتح مجالها الجوي أمام "إسرائيل" على نحو مباشر، وللمرة الأولى، بعدما أنجزت لها ملف جزيرتي تيران وصنافير، وهو ما يعد تطبيعاً رسمياً سعودياً مع "إسرائيل".
راهنت الإدارة الأميركية على تحقيق زيارة الرئيس بايدن أهدافاً كبيرة خلال جولته في الشرق الاوسط، التي كان أحد أهدافها دفع عجلة التطبيع العربي مع "إسرائيل" قدماً، وتأسيس حلف عربي تكون "إسرائيل" جزءًا منه، لكن الزيارة بالمجمل جاءت بنتائج ما دون التوقعات، وهذا ما سيدفعها مستقبلاً إلى البحث عن خيارات أبعد من أهداف الزيارة لاستعادة ثقة الدول العربية والخليجية بالدور الأميركي بعد اهتزاز صورتها من جراء حال الانكفاء التي أصابتها، وانسحابها من أفغانستان من جهة، وتخليها كحليف عن أوكرانيا في الحرب الدائرة أمام روسيا من جهة أخرى، فضلاً عن حال الصراع القائمة مع الصين.
راهنت إدارة الرئيس بايدن على الذهاب أبعد مما ذهبت إليه إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في مسار التطبيع مع "إسرائيل"، إذ إن إعلان مشروع دمج "إسرائيل" بدول عربية في حلف ناتو عربي يعد أخطر على المنطقة من مسار التطبيع نفسه، فعملية الاندماج لا تقتصر على التطبيع السياسي الدبلوماسي، وإنما تشمل مجالات أخرى منها، الأمني والعسكري والاقتصادي والثقافي والرياضي، وربما تأخذ أشكالاً ومجالات أخرى، وفي حال تحقق هذا المشروع فإنه يجسد واقعاً جديداً يجعل "إسرائيل" تتغلغل في المنطقة أكثر، كما يشكل تهديداً أمنياً صريحاً لمنطقة الخليج برمتها.
أخفقت إدارة بايدن أخيراً في خلق جسم عربي يضمن هيمنة "إسرائيل" على المنطقة بذريعة التصدي للخطر والنفوذ الإيراني، وتحويل إيران إلى عدو العرب الأول بدلاً من "إسرائيل". وتعود أسباب الفشل إلى عدم وجود إجماع عربي على قضية التطبيع مع إسرائيل، فما زالت دولٌ تجرّم العلاقة بإسرائيل مثل العراق والكويت، فضلاً عن غياب الثقة بالولايات المتحدة في ظل تطلّع بعض الدول العربية إلى تعزيز علاقاتها بمحور روسيا الصين.
على الواجهة الأخرى، تسجل إيران نجاحاً واضحاً يحسب لها في تعزيز جبهتها وعلاقاتها الخارجية، ولا سيما النجاح الواضح في إعادة ترميم وإصلاح العلاقة بدول مجاورة لها، وتجلّى ذلك في جعل هذه الدول مخالِفة لما ترسمه إدارة بايدن، خصوصاً في مسار مشروع المواجهة العسكرية المباشرة مع إيران، وهذا أكثر ما تتمناه "إسرائيل" الراغبة في مهاجمة إيران، لكن ليس بنفسها، وإنما بالعرب، وبفاتورة عسكرية يدفعها العرب كذلك.
ثمة ركيزة أساسية تعمل عليها الولايات المتحدة، ومن خلفها "إسرائيل" لتبديل خريطة الأعداء، بما يعزز من تمدّد "إسرائيل" أكثر في جسد المنطقة، فما بعد زيارة الرئيس الأميركي بايدن للسعودية ليس كما قبلها، خصوصاً في مسار التطبيع مع "إسرائيل"، إذ فُتحت شهية السعودية أكثر على التقدّم في هذا المسار، وتمثل ذلك في تسهيل زيارة حاخامات وصحافيين للسعودية، وهو ما جعل مستويات أميركية رسمية تشيد بالتحوّل السعودي التدريجي، وتعبّر عن حال الارتياح الكبيرة تجاه مواقف السعودية، إذ رأى مسؤولون أميركيون أن التغيير في نظرة عدد من السعوديين تجاه "إسرائيل" يشكل بوادر إيجابية تجاه مسألة التطبيع. وما يعزّز الموقف الأميركي في هذا الاتجاه ما قالته المبعوثة الخاصة (ديبورا ليبستادت) في خطاب ألقته بعد زيارتها المملكة السعودية جاء فيه "طوال عقود، كانت السعودية مُصدِّرًا كبيرًا لكراهية اليهود، لكن ما وجدته هو شيء مختلف تمامًا" وهذا يعكس التحوّل السعودي الحقيقي تجاه تقبل اليهود".
سياسة التحوّل في تطبيع العلاقات بين السعودية و"إسرائيل" تسير بوتيرة متدحرجة وصولاً إلى مرحلة التطبيع الكامل، وكل الوقائع على الأرض تدعم هذا المسار، وهي سياسة كشف عنها نائب وزير الخارجية الإسرائيلي (عيدان رول) لوكالة بلومبيرغ الأميركية قبيل زيارة الرئيس بايدن للمنطقة، إذ قال "إن التطبيع بين السعودية وإسرائيل سيتحقّق على مراحل في سلسلة من الخطوات الصغيرة، وبشكل متدحرج بدلاً من التوقيع على اتفاقيات شاملة، كالتي وقعت مع دول خليجية مجاورة".
إن رغبة السعودية في الانخراط في مسلسل التطبيع مع "إسرائيل" تزداد يوماً بعد آخر، وأمام هذه النتيجة تسقط كلّ شعارات التمسك بقضية فلسطين، وتسقط معها ورقة التوت المسماة مبادرة السلام العربية كشرط لعلاقات طبيعية بـ"إسرائيل". والتلويح بمثل هذه المواقف بين الحين والآخر ما هو إلا ذرّ للرماد في العيون، ومواقف وهمية تبيعها السعودية، لا رصيد لها على أرض الواقع، خصوصاً أن المملكة السعودية تدرك جيداً أن مواقف "إسرائيل" وسياساتها تجاه الشعب الفلسطيني ،وأرضه، ومقدساته، لم تبقِ أي فرصة أمام هذه المبادرة.