يد ايران الطائلة..من فقء "عين الأسد" الى ضربة "الموساد"
أحمد فؤاد
انتصار إيراني واضح لا لبس فيه. هكذا كانت العناوين الساخنة للساعات الماضية المثيرة، وهو انتصار حقيقي، وكأي حقيقة في الكون، فإنه استدعى أسئلة ضرورية ومشاهد ذات صلة بالعملية الجريئة لضرب أحد أهم مراكز الكيان المتقدمة، والموزعة في الوطن العربي، وهي هل كانت العملية مؤلمة لمن انطلقت ضدهم؟ وملهمة لمن تصب في صالحهم؟ وهل تبني عليها طهران مستقبلًا ما هو أوسع منها؟
بداية، فإن أزمة أمتنا العربية مع العواطف أصيلة ومتجذرة في النفوس، مهما حاولنا كبح جماحها بعقلنة كل رد فعل، وقد كان القرار الإيراني قويًا بأكثر مما حسبنا، وكان التنفيذ منضبطًا بأوسع مما حسبنا، وكانت القدرة على الحركة والتحمل لعواقب الفعل بأفضل من كل تمنيات صادقة. بانتصار، هو في النهاية يصب لصالح القضية العربية المركزية - فلسطين - ويختزل من قوة واشنطن وتواجد "تل أبيب".
والمتابع لأغلب ما كتب وأعلن منذ اللحظة المباركة التي هوت فيها الصواريخ، سيخرج بنتيجة مفادها أن العملية كسرت صورة مصنوعة، وضعها وروجها الكيان عبر أصدقائه الجدد من حكام الدم وأمراء الحرب المجرمين، وهي أن الوجود الصهيوني بات جزءًا من نسيج المنطقة لا يمكن إبعاده عنها أو تجاهله في واقعها اليومي، ثم إن هذا الوجود المستجد يتمتع بالحماية الأميركية وفي ظل علمها وحضورها، وبالتالي هو قادر على منح الحماية لنظم الخليج الشيطانية أو لفصائل باعت دينها وأوطانها مقابل شرعية أميركية ما.
وما وقع فعلًا هو أن كل هذا البناء الصهيوني، والذي يبحث عن موطئ قدم في كل بلد عربي، في البحرين والإمارات والسعودية والعراق وسيناء والمغرب، قد ابتلي بضربة هائلة، كسرت كل ما كان يروج له، ونثرت آمال التخلص من وجودهم ومن طغيان أصدقائهم الحكام، ومن سيطرة الراعي الأميركي، وكشفت خواء كذبة الحماية والشرعية، فوق ما حصدته من أرواح ضباطه القتلى.
وكان الوجود الصهيوني الطارئ في كردستان العراق، ورغمًا عن إرادة الشعب العراقي وضد رغباته، هدفًا ثمينًا يحقق الكثير من مطالب الثأر للدماء الزكية التي لا تزال تراق على كل جبهات القتال ضد الأميركي، ولعل اختيار هذا الموقع تحديدًا، ثم القصف من الأراضي الإيرانية له ما بعده من قواعد جديدة ووجوه مختلفة للمواجهة الشاملة.
ويجب أن نتذكر أولًا أن الفعل الإيراني لم يتوقف منذ لحظة الجريمة الأميركية الشنيعة بقرار اغتيال القائد قاسم سليماني، وإنما اتخذت من السبل ما حافظ على قوة الدفع في استراتيجية بعيدة المدى رأت وقررت أن إنهاء الوجود الأميركي في العراق، بكل ما يتطلبه الأمر من أثمان باهظة، هو الرد الأوفى على الجريمة، والمعادل للانتقام لأرواح القادة الشهداء.
وثانيًا، فإن عملية الرد المباشر على اغتيال الجنرال سليماني، والتي تجلت في قصف قاعدة عين الأسد، وقبل أن يواري الجسد الطاهر مثواه الكريم، جاءت غير مسبوقة في تاريخ الوجود الأميركي بالمنطقة والعالم، فلم يسبق أن قصف الجيش الأميركي جهارًا نهارًا، وأعلنت دولة ما عن مسؤوليتها في ذات اللحظة، باستثناء "بيرل هاربر"، والتي كان ثمنها دخول الولايات المتحدة رسميًا إلى الحرب العالمية الثانية، لكن في عين الأسد فقد ابتلعت واشنطن الضربة.
وكما أثبت الرد في عين الأسد كفاءة وقدرة، فإن الرد في أربيل جاء على المستوى ذاته من الإعداد والتنفيذ، وصولًا إلى اللحظة الحاسمة للعملية، والتي شهدت انهيار وتدمير خطة سيطرة وتواجد الكيان في العراق، قبل أن تفتك بضباط استخباراته.
والعملية كلها، مثلها مثل عملية فقء عين الأسد، جاءت وفق نظام يخاصم العشوائية ويتضاد معها لغويًا وواقعيًا، والذي يمثل، بأكثر المعاني مباشرة ويسرًا، بنيانًا متكاملًا ينطلق من نظرية قائمة على عقيدة، تؤمن بقيمها وتضع قوانين العمل بها، ثم آليات تنظم وتضع الأولويات والعناوين الواضحة للحركة، وهذا كله ضمن تراتبية دقيقة، يسلم الواحد منها الآخر ليستمر العمل منضبطًا ومجدولًا بالقواعد موصولًا بالأهداف.
والعمل الإيراني من خلال محور المقاومة، قبل وبعد استشهاد القائد قاسم سليماني، لم يحد يومًا عن عقيدة أن كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء، وقد تمكن من تقديم نفسه ثم التعامل الناجع مع الواقع السياسي -أو البؤس- وصولًا لتغييره، عن طريق الإيمان بهذا الشعار وتحويله من كلمات محفورة على القلب إلى صورة يومية للتعاطي مع كل أزمة ومرفوعة في وجه كل تحدٍ.
ولأن لكل منا محورًا أساسيًا تدور حوله الحياة، وترد إليه الخيارات والقرارات، وهذا هو ما يجري في الوعي الإنساني، أدركناه أو لم ندركه، وسواء كان شعورًا أو بقي في الوعي بلا كنه أو توصيف، ويكون لهذا الوعي اسم نظري إيديولوجيًا، أو فكرة يعاودها الحنين إلى الظهور وقتًا بعد الآخر، أو إيمان قادر على الانعكاس والترجمة في الأفعال، وله من القوة بحيث يغازل الآخرين ويقدم لهم المثل والقدوة، فإن العقيدة وراء الوفاء للدماء الزكية تبدو قادرة على تغيير كل معطيات هذا الواقع العربي المزري، وتستطيع جمع القلوب على هدف نبيل، يكتسح كل عوائق الطائفية وحدود الدول الموروثة من سايكس بيكو، ويتغلب على نعرات الفردية والمصالح الأنانية الضيقة.