وكيف سيكون ردّ الرئيس بايدن على التّهديدات التي وُجّهت إليه شخصيًّا من خِلالها؟ ولماذا نتذكّر اللّقاء الشّهير بين كيسنجر والملك فيصل؟
عبد الباري عطوان
وِفقًا للمعايير الصحافيّة التي تَعلّمناها وعَلّمناها، سواءً بحُكم التّأهيل الأكاديمي أو المُمارسة العمليّة الميدانيّة، يُمكن القول إن الحديث “المُطوّل جدًّا” الذي أجرته مجلّة “ذا أتلانتيك” الأمريكيّة مع الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد، والحاكِم الفِعلي للمملكة العربيّة السعوديّة، جاء “باهتًا” و”منقوصًا”، ولا يتضمّن إلا القليل من المعلومات المأمولة، وعلاوةً عن كونه كان طريقًا من اتّجاهٍ واحد، أيّ اتّجاه الأمير، بينما كان دور المُحاور أقرب إلى دور “المُستَمِع” وربّما “المُنبَهِر” رغم أن الفرصة كانت ذهبيّة لطرح العديد من الأسئلة الاستقصائيّة، للحُصول على إجابات ينتظرها القارئ بشغف ولهفة حول ملفّات عديدة بدايةً من جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، ومُرورًا بحرب اليمن وظُروفها وتطوّراتها، وانتهاءً بالعلاقات مع كُل من إيران، ودولة الاحتِلال الإسرائيلي، واللّقاءات السريّة معها، ناهِيك عن الأزمة الأوكرانيّة وتفاصيل التوتّر مع الحليف الاستِراتيجي الأمريكي.
النّقطة الأهم التي لفتت نظرنا في هذا الحديث، وتوقّفنا عند كُل كلمة وردت بشأنها تتعلّق بالتّهديدات التي وجّهها الأمير بن سلمان إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن وإدارته التي تتّسم بجُرعةٍ كبيرة من الجُرأة والتحدّي، غير مسبوقة على مدى الستّين عامًا الماضية من العُلاقات السعوديّة الأمريكيّة، وبالتّحديد مُنذ قيادة المملكة لحظر النفط عن الغرب وأمريكا تضامُنًا مع حرب أكتوبر عام 1973.
الأمير بن سلمان قال ما معناه إن تجاهل الرئيس بايدن له، وعدم الاتّصال به، أمْرٌ لا يعنيه، ولا يَهمّه، ولوّح بتقليص الاستِثمارات السعوديّة في أمريكا التي تصل إلى 800 مِليار دولار، وأوحى بأنّ أمريكا هي التي تحتاج المملكة وليس العكس، و”نصَح” الرئيس الأمريكي بالاهتِمام بمصالح بلاده التي تُوجد في السعوديّة التي تُعتبر واحدةً من الأسرع نموًّا في العالم، وباتت تحتل المرتبة 17 على قائمة مجموعة العشرين الاقتصاديّة العالميّة.
ربّما يُفيد التّذكير بأنّ التدهور الأكبر للعُلاقات الأمريكيّة السعوديّة، حدث في تشرين أوّل (أكتوبر) عام 1973 عندما قرّرت الدّول العربيّة النفطيّة في اجتماعٍ طارئ عقدته في الكويت قطع كُل الصّادرات النفطيّة إلى أوروبا وأمريكا لمُساندة الهُجوم الذي شنّته مِصر وسورية ضدّ دولة الاحتِلال، والوقوف في خندقهما، كرَدٍّ قويّ على الدّعم الأمريكي الأوروبي “لإسرائيل”، وإقامة أمريكا جسرًا جويًّا لإيصال الأسلحة لها، وتخصيص 2.3 مِليار دولار لإنقاذها من الإفلاس والهزيمة، كما أننا لا يُمكن أن ننسى في تلك اللّحظات التاريخيّة موقفين الأوّل للشيخ زايد عندما قال إن النفط العربي ليس أغلى من الدّم العربي والرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين الذي طار إلى موسكو وترك صكًّا مفتوحًا للقِيادة الروسيّة لتغطية نفقات أيّ صفقات أسلحة تحتاجها مِصر وسورية.
الملك فيصل، رحمه الله، الذي استقبل هنري كينسجر وزير الخارجيّة الامريكي الذي جاء مُهروِلًا إلى الرياض وبصُحبة مُستشار الأمن القومي في حينه ساعيًا لرفع الحظر، واستَقبله الملك في خيمة في الصّحراء مُتَعمِّدًا، وقال مقولته الشّهيرة “إنّنا على استعدادٍ أن نعود للعيش في الخِيام والاكتِفاء بالتّمر وحليب النّوق، وسنَعود إليهما”، وقال لضيفه الامريكي “أنا طاعنٌ في السّن وأُمنيتي قبل أن أموت أن أُصلّي ركعتين في المسجد الأقصى المُحَرَّر، ولن يكون هُناك سلام أو استِقرار إذا لم تنسحب إسرائيل من الأراضي المُحتلّة، وتتخلّى أمريكا عن دعمها”، ودعا إلى الجِهاد لتحرير المُقدّسات والأراضي المحتلّة.
الملك فيصل دفع حياته ثمنًا لهذا الموقف، ونالَ الشّهادة، ولا نقول ذلك من قبيل المُقارنة، فهي ليست في محلّها على الإطلاق، والظّروف مُختلفة والزّمن مُختلف، ولكنّنا نسوقها بمُناسبة التّغييرات الحاليّة المُتسارعة في المملكة على الصُّعُد كافّة، وكيفيّة تعاطي أهل الحُكم فيها مع الأزمات والمَآلات التي يُمكن أن تترتّب عليها دوليًّا وإقليميًّا.
باختصارٍ شديد، نُشير هُنا إلى أن هُناك أزمة مُتفاقمة في العُلاقات الأمريكيّة السعوديّة على أرضيّة “النفط” فالأمير بن سلمان، باعتِباره الحاكِم الفِعلي، رفض طلبًا أمريكيًّا تقدّم به الرئيس بايدن إلى والده الملك سلمان، بفكّ الارتِباط مع روسيا، وضخّ كميّات إضافيّة من النفط لتخفيض الأسعار للضّغط على الاقتصاد الروسي وتخفيفه عن الاقتِصادين الأمريكي والأوروبي، لامتِصاص أيّ آثار سلبيّة للأزمة الأوكرانيّة، والأكثر من ذلك بادَر بالاتّصال بالرئيس الروسي عارضًا الوِساطة، وهذا الرّفض هو الأوّل من نوعه في تاريخ العُلاقات الأمريكيّة السعوديّة.
الرّد المُباشر والسّريع من قِبَل إدارة بايدن على مواقف الأمير بن سلمان في الأزمة الأوكرانيّة الأقرب إلى روسيا، وتهديداته الجريئة للرئيس بايدن في مُقابلة المجلّة الأمريكيّة، جاء بحذف كلمة رئيسيّة لوزير الطّاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان، الذي يُعتبر من أهم الخُبراء في هذا القِطاع، من أجندة مُؤتمر للطّاقة ينعقد في هيوستن يوم غدٍ الاثنين، ومن المُؤكّد أن انشِغال الإدارة الأمريكيّة بحرب أوكرانيا ربّما حالَ دُون رُدود فِعل أُخرى، أكثر قوّة، حيث تبدو الاتّصالات بين الرياض وواشنطن شِبه مقطوعة أو غير موجودة أساسًا في الوقت الرّاهن.
الحرب الأوكرانيّة ستنتهي سِلمًا أو حربًا، والاحتِمال الأوّل هو الأكثر ترجيحًا حتّى الآن، في ظِل تسارع الوِساطات وعدم رغبة جميع الأطراف في الانزِلاق إلى حربٍ نوويّة عالميّة، ولهذا فإنّ السُّؤال الذي يطرح نفسه بقوّة: هل ستَغفِر إدارة بايدن هذه الإهانة من حليفها السعودي الاستِراتيجي التاريخي، خاصَّةً أن أسعار النفط (تبلغ حاليًّا 120 دولارًا للبرميل) قد تصل إلى 200 دولار في الأسابيع القليلة القادمة؟ وهل سيَدخُل الحديث المُطوّل لمجلة “ذا أتلانتيك” التّاريخ باعتِباره أحد أسباب هذا التوتّر في العُلاقة الأمريكيّة السعوديّة، وما يُمكن أن يترتّب على ذلك من نتائج؟
نترك الإجابة للمُستقبل القريب، ولا نستبعد مُفاجآت عديدة.. والأيّام بيننا.