رواية اضطرابات كازاخستان وبصمات "اسرائيل" وبريطانيا وتركيا
د. علي دربج
يوما بعد يوم، تتكشف حقيقة الاضطرابات التي وقعت مطلع الشهر الحالي في كازاخستان. الجزء الاول من الرواية تكفلت به مباشرة الدول الغربية والولايات المتحدة ووسائل اعلامها. منذ اللحظة الاولى ردتّ السبب الى الزيادة غير المسبوقة على أسعار الغاز، فضلا عن الفساد المستشري في هذا البلد (وهذا طبعا لا يمكن انكاره او تجاهله).فيما الجزء الثاني ( اي الرؤية الروسية)، بقي مغيبا او تم تجاهله من قبل الصحافة الغربية ــ التي لطالما لعبت دور شخصية المحقق (جيمس بوند)، كما تفعل عادة فيما لو كانت روسيا متهمة بدعم أعمال شغب في دولة أوروبية او اخرى حليفة للغرب او الولايات المتحدة ــ إلى ان بدأت الصورة تتوضح شيئا فشيئا بشكل جلي، حينما تحدثت شخصيات صحافية ومصادر استخباراتية روسية، عن تورط دول وجهات دولية (كانت لها اليد الطولى في زعزعة الاوضاع) عبر أدوات محلية، لتصبح بذلك فصول الرواية مكتملة، ويُحلّ بالتالي لغز الهجمة الغربية على تدخل "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" بقيادة روسيا التي حسمت الاوضاع في كازاخستان في فترة قياسية.
لنبدأ برواية الخبراء في اسيا الوسطى.
منتصف الشهر الحالي، نشر بيبي إسكوبار (محلل جيوسياسي مستقل يركز على أوراسيا) على موقع "The Unz Review" الاميركي، مقالا عن اعمال الشغب في كازاخستان، اتهم فيه أجهزة المخابرات الأمريكية، والتركية والاسرائيلية بإعداد وتنظيم محاولة الانقلاب في كازاخستان أوائل الشهر الحالي.
ولفت إسكوبار عن "مصادره في مجتمع استخبارات آسيا الوسطى"، إلى انه عندما تحدث الرئيس الكازاخستاني جومرت توكاييف في معرض تعليقه على الاحداث، عن "مركز واحد" (وهي عبارة مزمّزة) كان يقصد بذلك، غرفة عمليات عسكرية استخباراتية "سرية" أمريكية ــ تركية ــ إسرائيلية ــ ومقرها في المركز التجاري الجنوبي في "ألما تي"، وقد ضمت "22 أمريكيًا و 16 تركيًا، و6 إسرائيليين (اعترفت وزارة الخارجية الصهيونية بمقتل اسرائيلي اثناء الاحتجاجات)، وجميعهم قاموا بتنسيق عصابات التخريب التي دربها الأتراك في غرب آسيا ثم نقلوا إلى ألما تي". واشار إسكوبار أيضًا، الى البصمة البريطانية لجهاز مخابراتها الذائع الصيت M16، في احتجاجات (الغاز الظاهرية).
والان لنستعرض الرؤية الروسية لازمة كازاخستان، وعلاقة رئيس "لجنة الامن القومي" الكازاخستاني بالتمرد.
في الواقع ان اطلاق التمرد في كازاخستان، لم يكن فعلا آنيا، بل خططت أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية له في آذار/ مارس الماضي، ثم تم تأجيله بسبب الحالة الطبية للرئيس الكازاخستاني السابق نور سلطان نزرباييف. وبحسب عسكريون روس، ما كان ليبدأ (هذه التمرد) دون دعم قادة كبار خونة من "لجنة الأمن القومي لكازاخستان"، وفي مقدمة هؤلاء "رئيس جهاز أمن الدولة المقال" كريم ماسيموف الذي كان له دور فاعل رئيسي في الاضطرابات.
فعلى أراضي كازاخستان، وبمشاركة مباشرة من هذه اللجنة تم إنشاء العديد من الخلايا النائمة الي كانت على استعداد للخروج من الظل إلى النور بناء على أوامر خارجية.
من هي هذه الخلايا (الوهابية المنشأ).. فلنقرأ سويًا.
منذ العام 2005 على الاقل، استثمرت وكالة الاستخبارات المركزية والمخابرات (CIA ) البريطانية (MI6) بشكل مموه وخفي في آسيا الوسطى، من خلال تشجيع ما يعرف بـ"الحركة الإسلامية" في أوزبكستان ـ كانت آنذاك قريبة من طالبان ذات الجذور الوهابية ـ على إحداث الفوضى في جنوب قيرغيزستان، غير انه جرى وأدها في مهدها.
لكن القصة كانت مختلفة تمامًا بحلول أيار/ مايو 2021، عندما التقى جوناثان باول من جهاز MI6 البريطاني، بقيادة جبهة النصرة - التي تأوي الكثير من جهاديي آسيا الوسطى ذو العقيدة الوهابية - في مكان ما على الحدود التركية السورية بالقرب من إدلب.
كانت الصفقة تقضي أن هؤلاء "المتمردين المعتدلين" - في المصطلحات الأمريكية - سيتم التوقف عن وصفهم بأنهم "إرهابيون" طالما أنهم يتبعون أجندة الناتو المناهضة لروسيا.
ليس هذا فحسب، فقد ظهرت على مسرح الاحداث جماعات اخرى لا سيما "جماعة التبليغ والدعوة". وفي هذا الاطار يشير أليكس أليكسييف ـ زميل أبحاث أول في مركز السياسة الأمنية في واشنطن العاصمة وعمل لسنوات عديدة كمحلل أول في "مؤسسة راند" ـ يشير الى انه "كان من المفترض أن يتم "تنسيق الاضطرابات في كازاخستان من قبل مسلحي "جماعة التبليغ" المحظورة في روسيا، حيث يقع مقر "المنظمة" في راويند بباكستان، ويحظى بدعم علني من قبل الحكومة الباكستانية والمخابرات الباكستانية".
في 9 كانون الثاني/ يناير الجاري تم اعتقال أربعة أعضاء من "جماعة التبليغ" الذين شاركوا في أعمال الشغب في الفترة بين 4 إلى 8 كانون الثاني في "ألما تي"، وذلك اثناء عمليات تفتيش في أماكن إقامتهم، تم العثور على "أسلحة نارية، وقنابل يدوية مؤلمة وصوتية، وطلقات نارية، ومؤلفات دينية وأدلة مادية أخرى" ومصادرتها.
وكان لزعيم خلية أخرى في هذه "المجموعة" وهو مواطن أجنبي صلات "بجماعات إرهابية في الخارج". وبحسب المحققين "من منظمة معاهدة الامن الجماعي"، فقد وصل إلى كازاخستان "للإعداد لأعمال غير قانونية جماعية وهجمات على الهيئات الحكومية ووكالات تطبيق القانون".
هل كانت موسكو على علم بنيّة الجماعات الوهابية؟ الاجابة في السطور التالية.
يعود العنصر الأساسي في احباط هذا المخطط الاجنبي، الى سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، "نيكولاي باتروشيف"، الذي كان رأى الصورة الكبيرة لمشهد الخراب الاتي نحو موسكو ويستهدف أمنها ونفوذها، منذ سنوات. ولذلك ركزت (ردارات باتروشيف) وتحديدا في تشرين الثاني/ نوفمبر، على الوضع الأمني المتردي في أفغانستان.
لم يستغرق "باتروشيف" وفريقه، وقتًا كثيرا لاكتشاف كيفية استخدام هذا الجيش الاحتياطي الجهادي بعد الانسحاب الاميركي من كابول (على طول الخط البالغ 7500 كيلومتر من الحدود بين روسيا وآسيا الوسطى).
تقاطعت معلومات سكرتير الامن القومي الروسي، مع تحذيرات عالم السياسة الطاجيكي "بارفيز موليانوف" الذي قال أن هناك ما يصل إلى 8000 عنصر ينتمون الى السلفية الجهادية الوهابية، يتم شحنهم عن طريق (سلسلة الفئران) من سوريا والعراق، ويتسكعون في براري شمال أفغانستان.
عمليا، يعد هؤلاء الجزء الأكبر من "داعش - خراسان" أو "داعش" التي أعيد تشكيلها بالقرب من حدود تركمانستان. وتم نقل بعضهم إلى قيرغيزستان، ومن هناك ، حيث كان من السهل جدًا عبور الحدود من بيشكك والظهور في ألما اتا".
تروي مصادر استخباراتية روسية، انه بناء على هذه المعطيات، استبقت موسكو الامور، باجراء عدد كبير من التدريبات التمهيدية التي في أواخر عام 2021 في القاعدة العسكرية الروسية رقم 210 في طاجيكستان، وهي ساهمت بشكل فعال باسقاط المخطط الغربي الذي استهدف موسكو بالدرجة الاولى.
لكن ماذا عن الدور التركي، فلذلك قصة اخرى، هذه تفاصيلها؟
عمليا، ارتبط الأثر التركي في محاولة الانقلاب في كازاخستان بزعيم العصابات الإجرامية "أرمان ديكي دزوماجيلدييف" الملقب بـ"أرمان البري"، الذي وصل إلى "ألما تي" مباشرة من تركيا ، ثم تم اعتقاله لاحقا، في العاصمة الاقتصادية في 7 كانون الثاني/ يناير، مع 6 من أعضاء العصابة الإجرامية التي يرأسها.
لم يخف أرمان تعاونه مع الأجهزة التركية الخاصة. في العديد من الصور، يحيي أنصاره بعلامة المنظمة القومية اليمينية المتطرفة Bozkurtlar (الذئاب الرمادية)، التي يدعمها جهاز المخابرات التركي ( MIT).
وصفت وسائل الإعلام الكازاخستانية، أرمان ديكي بأنه "اليد اليمنى" لابن شقيقة نور سلطان نزارباييف ، أحد أغنى أغنياء كازاخستان ويدعى كايرات ساتيبالدي، وتعرّفه "وكالة الانباء الدولية في اسيا الوسطى" ـ "فرغانة": "كيرات ساتيبالدي كان زعيمًا غير رسمي للمتطرفين الدينيين لسنوات عديدة ويدير وحدات شبه عسكرية جيدة التنظيم ، خاصة في المناطق الجنوبية من "الجمهورية الكازاخستانية"".
يوضح دبلوماسيون روس ان "أرمان" المرتبط بشكل وثيق بـ"كيرات ساتيبالدي"، وشقيقه "صمد أبيش" نائب رئيس لجنة الأمن القومي (أقيل من منصبه لاحقا)، كان أحد المبادرين للهجمات التي وقعت في وسط ألما تي".
يذهب "أندري ميدفيديف"، وهو عالم سياسي روسي وخبير في منطقة آسيا الوسطى ، الى أبعد من ذلك، محملا "أرمان ديكي" مسؤولية "تنسيق المذابح الكازاخستانية" من مقره في فندق في كازاخستان.
في المحصلة، انهار مخطط الفوضى المعدّ لكازاخستان بعدما استعادت القوات الحكومية - بمساعدة "منظمة معاهدة الامن الجماعي" (التي تترأسها وحدات النخبة في الجيش الروسي) - السيطرة على مطار ألما تي" الذي تعرض للتخريب، وكان من المفترض أن يتم تحويله إلى مركز لتلقي الإمدادات العسكرية الأجنبية لو نجحت الخطة، لكن اطفاء موسكو لفتيل "الثورات" قطع الطريق على امتدادها الى عقر دارها حتما.