“حزب الله” يُعلن الحرب على السعوديّة والبِداية احتِضان المُعارضة علنيًّا ورسميًّا في الضاحية الجنوبيّة..
ما هي الخطوة القادمة؟ وهل سيَخرُج الخِلاف عن طابعه الإعلامي الحالي؟ وكيف تصرّف الأمير نايف في سابقةٍ مُماثلةٍ عام 1996؟
عبد الباري عطوان
دخل الخِلاف بين “حزب الله” اللبناني والمملكة العربيّة السعوديّة مرحلةً جديدةً من التصعيد السياسي والإعلامي غير مسبوقة، تمثّلت في استِضافة الحزب لمُؤتمر لـ”المعارضة في الجزيرة العربيّة” انعقد في الضاحية الجنوبيّة لبيروت أمس الأوّل وشاركت فيه شخصيّات سعوديّة مُعارضة علاوةً على السيّد هاشم صفي الدين رئيس المجلس التنفيذي، وقيادات إسلاميّة سنيّة ومسيحيّة لبنانيّة بارزة.
“حزب الله” كان يتجنّب دائمًا أيّ صِدام علني مع المملكة العربيّة السعوديّة حرصًا على التوازنات الداخليّة اللبنانيّة، ومُراعاةً لمشاعر الطائفة السنيّة تحديدًا التي ترتبط بعلاقات تاريخيّة طائفيّة سياسيّة معها، وعدم الصّدام مع الأحزاب المسيحيّة المدعومة سعوديًّا، ولكن تأزّم العلاقات بين بيروت والرياض في الأسابيع الأخيرة على أرضيّة تصريحات السيّد جورج قرداحي وزير الإعلام المُستقيل حول حرب اليمن وعبثيّتها، وسحب أربعة حُكومات خليجيّة لسُفرائها من بيروت، والأهم من ذلك الهُجوم الذي شنّه العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز على الحزب عندما “حثّ القِيادات اللبنانيّة على إيقاف هيمنة هذا الحزب الإرهابي على لبنان”.
الرّد الأوّل على هذا الهُجوم الرسمي الإعلامي السعودي جاء على لسان السيّد حسن نصر الله، أمين عام الحزب في خطابه الذي ألقاه مطلع هذ الشّهر بمُناسبة الذكرى الثانية لاغتيال اللواء قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، حيث ردّ الصّاع صاعين للعاهل السعودي، واتّهمه وبلاده بالإرهاب وقتْل مئات الآلاف من الأبرياء في اليمن وسورية والعِراق وغيرها.
يبدو أن هذا الرّد الغاضِب من قبل السيّد نصر الله على العاهل السعودي كان قمّة جبل الجليد عُنوانًا لاستراتيجيّةٍ جديدة للحزب بإعلان الحرب “السياسيّة” على المملكة، ودعم المُعارضة لها، وتعبئة إعلام “محور المُقاومة” خلف هذا الدّعم، وربّما تتطوّر هذه الاستراتيجيّة “المُتدحرجة” إلى ما هو أخطر من ذلك في الأسابيع والأشهر المُقبلة، حسب ما كشفته بعض المصادر العليمة القريبة من الحزب في لبنان ولندن، إذا لم يتم تطويق هذا التّصعيد بسُرعةٍ.
ما يُؤكّد ما قُلناه آنفًا، تزعّم السيّد هاشم صفي الدين، الذي يُوصَف بأنّه الرّجل الثاني في الحزب، لمُؤتمر المُعارضة، وإلقائه كلمةً افتتاحيّة أكّد فيها أن الحزب سيرُد بقُوّةٍ على أيّ “تطاول” سعودي على الحزب وأنصاره، وطالب السعوديّة “بوقف هيمنتها على لبنان واللبنانيين، والتدخّل في شُؤونه وفرض الآراء والتّهديد بأشكاله كافّة”.
يَصعُب علينا توقّع الفُصول الأُخرى لهذه الاستراتيجيّة الجديدة إلى جانب استمرار دعم المُعارضات السياسيّة، ولكنّ هُناك سوابق يُمكن القياس عليها، أبرزها نقل المعركة إلى الداخل السعودي، وخاصَّةً المنطقة الشرقيّة (الأحساء) حيث تُوجد الأقليّة الشيعيّة، وعلينا أن لا ننسى “منظمة الثورة الإسلاميّة في شبة الجزيرة العربيّة” التي أسّسها حسن الصفار في أوائل الثّمانينات وكان مقرّها في دِمشق ولها فُروع في واشنطن ولندن، و”حزب الله” السعودي الذي اتّهمته المملكة بالوقوف خلف العمليّة الانتحاريّة التي استهدفت مقرّ القوّات الأمريكيّة في مدينة الخبر عام 1996، وتفجيره بشاحنةِ وقود ما أدّى إلى مقتل حواليّ 20 جُنديًّا، وكشفت التّحقيقات أن هذه الشّاحنة جرى تفخيخها في جنوب لبنان، ولم تنته هذه الثورة وتُوقف أنشطتها إلا بعد تحلّي الملك فهد بن عبد العزيز بالحكمة، ودُخوله في مُفاوضاتٍ معها وتسوية أوضاع المُشاركين فيها، والتّجاوب مع مظالم أنصارها في المنطقة الشرقيّة، ومن المُفارقة أن بعض أعضاء هذه المنظّمة كانوا من أبرز المُشاركين في مؤتمر الضاحية الجنوبيّة فهل هذا مُؤشِّرٌ على احتِمال إعادة إحيائها من جديد؟
كان لافتًا أن الحُكومة السعوديّة في حينها لم تفتح معركة مع “حزب الله”، ولم تتّهمه بالإرهاب، والأهم من ذلك أن الأمير نايف، وزير الداخليّة في حينها، رفض رفضًا مُطلَقًا إشراك الجانب الأمريكي في التّحقيقات مع المُتّهمين بالانفِجار، أو آخرين نفّذوا هُجومًا على خُبراء أمريكيين في قاعدة للحرس الوطني السعودي في العام نفسه، مثلما رفض أيضًا استجوابهم من قبله على نتائجها، على اعتبار أن الأمر شأنٌ داخليّ سعوديّ صرف.
الحملة على “حزب الله” واتّهامه بالإرهاب جاء على لسان العاهل السعودي في خِطابه قبل نهاية العام الحالي، وهذه سابقةٌ أُخرى لأنّه ليس من عادة مُلوك السعوديّة استِخدام مِثل هذه التّوصيفات، ممّا يعني أن هُناك من كتب الخطاب، أو أوحى بما ورد فيه، وأصرّ على استِخدام هذا التّوصيف، فالملك سلمان مريض، وغاب أو جرى تغييبه عن لقاءين مُهمّين في الأسابيع الأخيرة، الأوّل مع إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا أثناء زيارته للرياض، والثاني لافتتاح أعمال المُؤتمر الأخير لقمّة مجلس التعاون الخليجي، وكان لافتًا أن السيّد وليد بخاري السّفير السعودي “المسحوب” من بيروت كرّر تُهم الإرهاب نفسها لحزب الله، وطالب بإنهاء هيمنته على لبنان، وقال في تغريداتٍ له “إن الحزب يُهَدِّد الأمن القومي العربي”، وهذا يعني أنه لن يعود إلى سفارة بلاده في بيروت في المُستقبل المنظور، وأنّ كُلّ الاستِجداءات والتّنازلات التي أقدم عليها بعض المسؤولين اللبنانيين تحت عُنوان إعادة العُلاقة مع المملكة، ذهبت أدراج الرّياح.
المملكة تغيّرت، وتخلّت قِيادتها الجديدة عن الكثير من ثوابتها السياسيّة الدبلوماسيّة، و”حزب الله” أحد الأركان الأساسيّة في محور المُقاومة تغيّر أيضًا، وبات قُوّةً إقليميّةً عسكريّةً كُبرى، وبات أقرب إلى العُمُق السعودي من خِلال حُلفائه في اليمن جنوبًا، والعِراق شِمالًا، وإيران شرقًا، ورسائله واضحة في هذا المِضمار.
تصاعد منسوب التوتّر في العُلاقة بين المملكة و”حزب الله” مُستَمِرٌّ، لأنّ الأخير، أيّ الحزب، نفد صبْره، وقرّر الرّد بقُوّةٍ، ولا يستطيع أحد أن يتنبّأ بخطواته المُقبلة، فليس بعد الاتّهام بالإرهاب تُهمةٌ أُخرى.. واللُه أعلم.