تركيا نحو "طوران الكبرى".. وموسكو تدق ناقوس الخطر
د. علي دربج
لا تفوت تركيا فرصة إلا وتستغلها لتحقيق حلمها باستعادة أمجادها الامبراطورية، مستخدمة جميع الوسائل والأساليب المتاحة للوصول الى غاياتها تلك، بدءًا من القوة العسكرية، مرورًا بالاستثمارات الاقتصادية، وانتهاءً بالعمل على إحياء القومية التركية عبر طرحها ما يسمى بـ "طوران العظيم" لتوحيد الشعوب الناطقة بالتركية فى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، الأمر الذي تنظر اليه موسكو بريبة، وترى فيه تهديدًا وخطرًا مستقبليًا، على وحدة أراضيها ونفوذها الجيو ــ سياسي.
ما هو صدى هذا المشروع داخل روسيا؟
خلال السنوات الماضية، توقف محللون روس أمام الحديث الذي يدور في تركيا عن تشكيل مجتمع ثقافي عابر للحدود الوطنية يسمى "طوران الكبرى" الذي يهدف الى جذب الأذربيجانيين، وبعض شعوب آسيا الوسطى، أو ما يعرف بالشعوب التركية التي تعيش في الاتحاد الروسي.
اللافت، أنه وعلى مدى الأشهر القليلة الفائتة، احتدمت قضية "طوران الكبرى" بقوة في موسكو نتيجة لأربعة تطورات مهمة حصلت. التطور الأول هو الخشية لدى روسيا من أن تركيا المنتشية بانتصار أذربيجان في عام 2020 على أرمينيا، ستدعم باكو في سعيها للسيطرة على ممر زانجيزور، الذي من شأنه أن يوفر لأنقرة رابطًا بريًا مباشرًا عبر جنوب القوقاز إلى آسيا الوسطى.
ويتمثل التطور الثاني بالمخاوف الروسية من الحضور التركي المتزايد في الجمهوريات التي كانت تتبع لها سابقا، إذ ينظر القادة والمحللون الروس بحذر، للتطور المستمر لمنظمة الدول التركية التي تقودها انقرة، المعروفة سابقًا باسم "مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية"، أو "المجلس التركي"، حيث تعتبر روسيا أن هذا المجلس وجد ليكون بديلًا عن كومنولث الدول المستقلة (CIS) التي تهيمن عليها موسكو، والجماعة الاقتصادية الأوروبية الآسيوية، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO).
ويرتبط التطور الثالث بقلق روسيا من بيع تركيا طائرات عسكرية من دون طيار إلى كازاخستان في تشرين الاول 2021.
أما التطور الرابع والأهم، والذي استفزّ روسيا كثيرًا، فكان صور الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، وهو يقف أمام خريطة تظهر "العالم التركي" الذي يضم مساحات شاسعة من روسيا.
وبناء على ذلك، أدت هذه الأحداث والتطورات إضافة الى الحديث الدائر في تركيا ودول أخرى تدور في فلك انقرة عن "طوران الكبرى" -وهي منطقة تضم أكثر بكثير من مجرد الشعوب التركية- الى دقّ ناقوس الخطر في العاصمة الروسية، حيث ارتفع العديد من أصوات النخب المنبّهة من مخطط أنقرة، وأبرزها الكاتب الروسي كامران جاسانوف من "جامعة الصداقة بين الشعوب" في موسكو، الذي جادل بأن هذه "الفكرة التركية الطويلة الأمد، تجد تأييدًا قويًا بين الشعوب التركية".
ليس هذا فحسب، إذ يلفت جاسانوف الى أن "طوران الكبرى" هي في بعض النواحي غامضة وغير محددة لكن عدم الوضوح هذا هو مصدر قوتها كهوية لا تجمع حولها أتراك العالم فحسب، بل الشعوب الأخرى ذات الصلة". وقال جاسانوف الصيف الماضي في مقابلة مع موقع Svobodnaya Pressa الروسي، إن مفهوم "طوران الكبرى" موجود في العقل تمامًا مثل "العالم التركي". ويضيف جاسانوف "من حيث المبدأ، الخطة حقيقية. ودور أذربيجان في ذلك هو أن تكون بمثابة الترامبولين (آلة رياضية يستخدمها لاعبو الجمباز) للتوسع التركي في شمال القوقاز وآسيا الوسطى". ويؤكد جاسانوف أن "على موسكو أن تدرك هذا الواقع، فإذا انتظرت طويلا، قد تجد نفسها في الخارج تنظر إليها، وهي تتمدد نحو أراضيها".
ما هي خلفيات الخوف الروسي؟
القلق الروسي من "طوران الكبرى"، مردّه الى أن الفكرة لا تشمل فقط الشعوب التركية (التي تروق لها القومية التركية) ولكن أيضًا الشعوب الفنلندية الأوغرية، وهي عادة ما يُنظر إليها على أنها منفصلة تمامًا، وتسكن ما يقرب من نصف روسيا.
من هنا، فإن أي حركة توحد هاتين المجموعتين، لن تهدد فقط النفوذ الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى، ولكن أيضًا سيطرة موسكو على كل من المناطق التركية والفنلندية الأوغرية داخل الحدود الحالية للاتحاد الروسي.
ماذا عن الدول الأخرى؟
بالطبع، روسيا ليست الدولة الوحيدة التي يهددها "طوران"، فمن الواضح أن إيران لا تريد أن ترى هذا النوع من التوسع التركي. وعلى المقلب الاخر هناك الصين التي تشعر بالتهديد على المدى الطويل، وهذا لا يتعلق بوجود الشعوب التركية داخل حدودها (وعلى الأخص الأويغور والكازاخيين وغيرهم)، بل بطموحات بكين في الظهور في نهاية المطاف كلاعب مهيمن في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، وبالتالي ومن وجهة نظرها، سيذوب هذا المشروع "الطوراني" في المجال الصيني العالمي لاحقا.
ومع ذلك، تبقى روسيا أكثر عرضة للخطر من أي دولة أخرى، وانطلاقا من ذلك بدأ العلماء والمسؤولون الروس الآن في إيلاء اهتمام إضافي للطورانية المعاصرة، وقد ترجم ذلك بظهور بوابة باللغة الروسية مخصصة لهذا الموضوع ToranToday.com.
ما علاقة "الناتو" بالمشروع؟
يؤكد المعلق في مؤسسة الثقافة الاستراتيجية (وهي مؤسسة بحثية مرتبطة بالحكومة الروسية) أرتيوم إغناتييف أن ما يحدث الآن هو نتيجة لتخطيط تركي وليس أمام موسكو خيار سوى النظر فيه. ويذهب إغناتييف أبعد من ذلك قائلًا "إن روسيا ستفقد المزيد من نفوذها في القوقاز وآسيا الوسطى، وستجد نفسها مهددة على أراضيها أيضًا".
ويضيف إغناتييف إنه "خلال الحرب الباردة، مُنعت تركيا من متابعة أحلامها التوسعية. ولكن منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تمتعت أنقرة بحرية بشكل ملحوظ". وأضاف "ما يجب أن تعترف به موسكو، هو أن أنشطة تركيا وخصوصًا ترويجها لـ"طوران الكبرى"، تعد جزءًا من إستراتيجية منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) المصممة لإضعاف روسيا في الخارج وفي الداخل".
المفارقة أنه قبل عام، وسعت تركيا مفهومها من "شعب واحد - دولتان"، الذي روجت له لوصف العلاقات التركية - الأذربيجانية، إلى فكرة "شعب واحد - خمس دول" - ليشمل ليس أذربيجان فقط، لكن الدول التركية الأربعة من آسيا الوسطى بعد الاتحاد السوفياتي. ومع تطور منظمة الدول التركية، أصبح من المرجح أن لا تتوقف هذه المجموعة المتعددة الأطراف عند القضايا الثقافية، وربما تتعامل أكثر فأكثر مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى المسائل الأمنية.
الطامة الكبرى بالنسبة لروسيا، أن منظمة الدول التركية لم تعد تقتصر على العالم التركي، بل أخذت في التوسع شيئًا فشيئًا، إلى أن ضمت إليها المجر مؤخرًا (بصفة "مراقب" في أعقاب تحول المجلس التركي إلى منظمة الدول التركية) والتي هي أيضًا عضوًا في "الناتو" إلى جانب تركيا، وأوكرانيا - من المحتمل أن تحصل على وضع الشريك في الناتو - التي تستخدم تتار القُرم كأساس لمشاركة كييف مع العالم التركي.
في المحصلة، يبدو أن مشروع "طوران العظيم" سيضيف أزمة أخرى الى مشكلات موسكو المتعددة، وربما تتصدرها مع الزمن من حيث الخطورة، خصوصًا وأن الغرب لن يتورع عن توظيف هذه المشروع للنيل من ورسيا، لا سيما في ظل التوترات القائمة بينها وبين حلف الناتو. وبالتالي فإن موسكو لن تقف مكتوفة الأيدي، بل ستعمد الى مواجهته بالكيفيّة التي تحددها.