نحو تفسير سلوك الأنظمة العربية: إذعان أم عودة للمسار الصحيح؟
إيهاب شوقي
نرى بعض التطورات في سلوك بعض الأنظمة العربية، وهو ما يثير تساؤلات مشروعة حول دوافعها، وهل هي استفاقة وعودة حميدة تتطلب التشجيع وبمثابة استفاقة، أم أنها مجرد إذعان للتوازنات الجديدة التي فرضها محور المقاومة، مما يتطلب حرصا وترويا ومراقبة؟
تسود حالة عامة من تشوش الانتماءات في الوطن العربي والتي تتراوح درجاتها بين مستويات دنيا عنوانها السلبية وعدم الحماسة لهوية جامعة واللجوء لفكرة الخلاص الفردي، لتصل في مستوياتها العليا لمراتب تسويغ الخيانة وتمريرها، بل وتبريرها، والتعاطي مع العدو باعتباره حليفا واستحداث اعداء من المفترض انهم اشقاء!
وربما وصلت الأمور لهذه الدرجات المؤسفة لعدة عوامل يمكن رصد أهمها فيما يلي:
1- التناقض الدائم بين الحقائق السياسية والعلمية، حيث مفهوم الأمة هو مفهوم علمي بامتياز، إلا أن الحقائق السياسية كرست التشرذم وزرعت التناقضات، مما جعل التاريخ شاهدًا على عدم تطبيق المفهوم العلمي سياسيًا إلا في لحظات تاريخية نادرة، لم تخلُ أيضًا من التناقضات والخيانات وربما الإذعان للواقع وتوازناته بدلًا من الإذعان للمفهوم ومقتضياته.
ففي لمحة تاريخية مثل حرب أكتوبر/تشرين في العام 1973 بدا أن هناك شبه توحد في مواجهة العدو، إلا أن بعض من توحدوا ودعموا المعركة، كانوا تحت عنوان الإذعان لرغبة الشعوب الجامحة للتحرير، وهو ما ثبت من سرعة الالتفاف والانقلاب واجهاض ما حدث من انجاز عسكري، وتمت إعادة احياء الشرذمة التي لم تفارق مرحلة الصمود والتحرر الوطني والتي شكلت حربًا عليها واعادة انتاج الفتن بأشكال مستحدثة ليعود مسار التناقض والصراع الداخلي بدلًا من استغلال فرص الانجاز وجني ثمار الصمود!
2- الميراث الاستعماري الذي كان له أثر بالغ في نفوس قطاعات ليست صغيرة بكل أسف، وشكل بذور للتفرقة، سواء بأشكال نفسية ووجدانية، خلقت نوعًا من إدمان العبودية وفقدان الثقة والدافع، أو بتكريس أوضاع اقتصادية لا تمكن من الارتقاء الاقتصادي والصعود على سلم الحراك الطبقي إلا للعملاء أو المهادنين.
3- تطور ماكينات الدعاية وتقاطع الدعايات الاستعمارية مع الدعايات الداخلية لأنظمة حكم تابعة وتتويجها بدعايات دينية زائفة، مما كرس قناعات مغرضة لدى الشعوب أصبحت بمثابة حقائق وبات معها دعاة الحق والمتمسكين بالثوابت، هم الطرف المطالب بإثبات صحة مواقفهم، وهم المطالبون بالجهد وتكثيف الدعاية لإثبات الحق!
هنا نحن أمام واقع مليئ بالتناقض والحقائق المعكوسة، وهو ما أدى إلى عنوان بارز مؤسف يميز هذه اللحظة التاريخية، ومفاده أن فرص الخلاص من التبعية والهيمنة كبيرة، بينما الضحايا هم من يقاومونها مساعدة للاستعمار وتطوعا للعبودية!
ولعل الوضع في لبنان خير شاهد على ذلك، فقد صمدت المقاومة في وجه العدو ووجه قوة امبراطورية عظمى كالولايات المتحدة، وفرضت المقاومة معادلاتها واستطاعت كسر الحصار بقرارات شجاعة، بدا معها العجز الأمريكي ومحاولات الالتفاف الفاضحة، إلا أن الأدوات الأمريكية لهذا الالتفاف لم تكن عسكرية، بينما كانت أدوات داخلية من المفترض أنها لو استغلت الفرصة التاريخية وتحالفت مع المقاومة، لخرجت أمريكا من المنطقة ولعجز العدو عن اطلاق اي تهديدات حتى لو بشكل لفظي!
للأسف ورغم حات تاريخية مشرفة لمحور المقاومة تحققت معها انجازات تاريخية، فإن هناك ومن داخل الأمة من يسعى لإجهاضها وإعطاء قبلة الحياة للاستعمار.
والتناقض الابرز هنا، هو أن منحنى الامبراطوريات تاريخيًا يشهد انحدارات لتحتل امبراطوريات أخرى منحنيات الصعود، بينما تتفرغ الأمة لركوب المنحنيات مع القوى الكبرى، لتنحد مع الهابط منها، ثم تسعى لاستبدال ذلك بالركوب والتطفل على القوى الصاعدة، بدلًا من تشكيل منحناها الخاص ووالصعود اللائق بها والتي تمتلك مؤهلاته.
ما نراه الآن من سلوك أنظمة تابعة هو الاذعان للتوازنات الجديدة بدلًا من الاستفاقة والتوبة واصلاح الأخطاء والعودة لمسارات صحيحة وشريفة. فما نراه اقليميًا هو مهادنة للحقائق الجديدة وليس تحالفا مع المقاومين. وما نراه دوليًا هو محاولة للالتحاق بقوى صاعدة وليس ثورة على قوى هابطة.
والغائب الحاضر هي الشعوب، والتي حققت سابقًا استجابات مشرفة للتحديات، فانحازت للوحدة والمقاومة، مما أجبر الأنظمة على مجاراتها ووضع لها اسقفًا للمهادنة والعمالة، بينما تركت الشعوب اليوم المقود للأنظمة التي فقدت الأهلية للقيادة، لتسير بهم بسرعات خطيرة في طرق زلقة، وتدخل بهم مسارات غير معلوم نهايتها وتخلو من أي لافتات إرشادية، وتأخذ طرقًا التفافية وتسير عكس السير، وهو ما يجعل احتمالات الحوادث أعلى من احتمالات الوصول الآمن!
ان لم تنتزع الشعوب مقود القيادة، أو على أقل تقدير تفرض قانونا للمرور، فإن الأمور تتجه لحوادث مؤسفة وتصادمات مروعة.
وقد وضع محور المقاومة قانونا رشيدا للمرور وأثبت نجاحه وأهليته، وعلى الراشدين من الشعوب والأنظمة الالتحاق بعربة المقاومة التي أدهشت العالم بمهارة القيادة والتلب على كل المنزلقات والطرق الوعرة.
إن خطورة سلوك الأنظمة المهادنة للتوازنات لا تقل عن خطورة عمالتها وعدائها الصريح وهو ما وجب التبيه إليه.