لبنان.. بين التغيير السلمي والمخاطرة بالفوضى
– يستسهل البعض تقديم الأمور بطريقة سوداوية تحت شعار الثورية، بسردية تقوم على التركيز على نقاط الضعف في تركيبة وخطة الحكومة الجديدة لمواجهة الأزمات البنيوية في النظام الاقتصادي والمالي، وحجم التشابك في المصالح بين الهياكل السياسية الوازنة والتشكيلات الممسكة بالوضعين المالي والاقتصادي ووقوفهما معاً وراء الاحتكار وسياسات الإفقار، من داخل المؤسسات المالية الحاكمة ومن مواقع القرار الوازن في القطاع الخاص المصرفي والتجاري.
– يستخلص هؤلاء ذات النتيجة التي بنى عليها جيل التغييريين في مطلع سبعينيات القرن الماضي آمالاً كباراً بإمكانية إحداث اختراق في بنية النظام السياسي والاقتصادي عبر الرهان على عملية تثوير شعبية للطبقات الفقيرة، ورهان على تحطيم الجدارن الطائفية التي تنتصب كحواجز لتقسيم صفوفها، لاستيلاد حركة عابرة للطوائف تفتح طريق التغيير، وكانت الحصيلة بتداخل الانقسام حول المسائل الوطنية المتصلة بالهوية مع الانقسامات الطائفية والقضية الاجتماعية، فتنفجر بقوة حضور التدخل الخارجي، القائم أصلاً على استهداف ميزان القوى الذي يهدد مصالحه ومشاريعه، حرب أهلية طاحنة امتدت لخمسة عشر سنة، ويطاح بالوطن والتغيير من بوابة انهيار مقومات السلم الأهلي، وضياع الدولة وحضور مؤسساتها، التي كان تحطيمها بالأمس هدفاً للثوار.
– تقول التجربة اللبنانية لكل عاقل بعيد عن المراهقة والعبثية، إن قوى التغيير عندما لا تملك منفردة ميزان القوى اللازم لفتح مسار مستقل تقوده، ويكون عليها الاختيار بين التداخل مع القوى الحاكمة والسائدة بكل ما فيها من مساوئ وعلاقات بالخارج، وبين التداخل مع منظمات تحمل لواء المجتمع المدني التي تحمل لواء الثورية لحساب السفارات وعملاً بتوجهياتها، فلا مجال للتردد لأن التداخل مع الأولى أشرف ألف مرة من التداخل مع الثانية، فالأولى رفضت السير بالبلد نحو الفتنة وحمل لواء نزع سلاح المقاومة، بينما فعلت الثانية الأسوأ، والأولى حاضرة بقوة ما تمثل من الشعب بينما تحضر الثانية بقوة من تمثل في الخارج، وتقول التجربة اللبنانية إن الخروج من الطائفية لا يتم على الساخن بل على البارد، والثورة الساخنة وصفة سريعة للحرب الأهلية والفوضى، والطريق البارد هو طريق تراكم التسويات الأكثر تحرراً بالتتابع من القيود الطائفية، ولذلك فالخروج من الطائفية يبدأ من فوق لا من تحت، وهذا هو مبرر قبول التغيريين بمسار اتفاق الطائف، ودور اتساع الشرائح الشعبية المؤمنة بالخيارات البعيدة من الطائفية هو تسريع هذا التحرك من فوق والضغط من تحت على الفاعلين فيه لجعله أقرب.
– تقول التجربة اللبنانية إن التغيير في البنية الاجتماعية والاقتصادية ونمط الاقتصاد السائد لصالح ترجيح كفة الإنتاج على الريع، ومكافحة الفساد، وتعزيز معايير دولة الرعاية التي ترعى هموم مواطنيها وشؤونهم، على حساب دولة المزرعة والفندق، أي التي تعامل مواطنيها كأجراء أو نزلاء لا كمواطنين، لا يتحقق عندما يكون نظام الريع والمزرعة يحقق وهم الرفاه للناس، وإنه يصير مساراً ممكناً عندما يعلن نظام الريع والمزرعة إفلاسه، لكنه مسار يبدأ بالحفاظ على الدولة ومؤسساتها وانتظام حياتها الدستورية، والسعي لتعزيز ميزان قوى ضاغط داخل مؤسساتها لصالح التغيير، بقوة الاستثمار على بلوغ الخيارات الأخرى الطريق المسدود، وحجم الانهيار وضغط مفاعيله التي لا تقوم بأعبائها إلا حلول جذرية، وتغييرات بنيوية.
– لذلك لا يمكن التعامل مع الانقسام حول الحكومة الجديدة بصفته انقساماً بين ثوار وتقليديين، على رغم خداع الصورة، فالمشهد ينقسم إلى صفين، صف يجتمع فيه جمع سياسي من القوى الطائفية الحاكمة يتقدمهم الرؤساء والأحزاب الطائفية الكبرى مع مؤمنين صادقين بالسعي للتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهذا مبرر وجود قوى المقاومة في هذا الصف، وصف آخر يضم جمع سياسي يتقدمه حزبا القوات والكتائب، وهي القوى الأكثر جذرية في النظام الطائفي والطبقي القديم، ومنظمات المجتمع المدني الممولة والمشغلة من السفارات الغربية، وبعض التغيريين الذين يتوهمون أن للتغيير في هذا الإصطفاف فرصة أو الأصح للتميز، وادعاء التعفف والترفع، يكفي مثالاً للتداخل، أن تصف قناة العربية المناوئة للمقاومة والناطقة بلسان حكام الخليج والمروجة للتطبيع بوصف الحكومة الجديدة بحكومة المحاسيب، وأن يصفها جماعة السفارة بأنها حكومة حزب الله.
– ولادة الحكومة ستبقى نقطة بداية لاستعادة السياسة في بلد كاد يفتقد كل عناصر الحياة، لتستعيد الحياة السياسية والمؤسساتية دورة الحياة، كنقطة انطلاق لمنع انهيار محكوم بالتحول لمسار للخروج من النفق، يصبح أسرع كلما توحدت جهود التغييريين تحت راية عقلانية واقعية تستفيد من التجربة وتتنبه لمخاطر المراهقة في زمن لا مكان فيه إلا للرشد.
البناء