العقوبات الأميركية والضربة الإيرانية المذهلة
أحمد فؤاد
يقف التاريخ شاهدًا، وحائرًا، على لحظات مصيرية، لعب فيها الوهم دورًا في تغيير مصائر الأمم، وفي كتابة صفحات جديدة، وانتزاع مكاسب هائلة، وكلما كان الكابوس الذي يُغيب به الوعي الجمعي أعمق، كان السقوط مروّعًا ومن علٍ، ون أول تسويق وهم القوة لدى الإمبراطوريات القديمة، مرورًا بالخرز البراق والأقمشة الملونة التي انتزع بها الأوروبيون عالمًا جديدًا بأكمله في القارة الأميركية، جاء الصهيوني مسلحًا بالنفير الإعلامي، ليبدع في هذا الفن أيما أبداع.
الجمهورية الإسلامية التي تخوض في هذه الفترة، بالذات، أيامها الأخيرة في الحصار الظالم المفروض عليها من الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترمب، بغية ردها عن حقها الطبيعي في امتلاك التكنولوجيا النووية، والتي تقدم في شموخ وقدرة هائلين، نموذج الفعل الثوري الحقيقي لأمتها أولَا، ثم لكل ثابت على طريق المقاومة عبر العالم، من فنزويلا وكوبا في أميركا البعيدة إلى لبنان وسوريا، القريبتين قولًا وفعلًا، يبدو الرهان الأميركي ومن ورائه الصهيو-خليجي على سقوط الثورة الإيرانية أو ضعفها محض تفكير بائس، يترجم لخطاب أكثر بؤسًا، ليغازل جمهورًا هو البؤس البشري عينه.
الحكومات العربية الدائرة في فلك العبودية لواشنطن تحاول تعليم شعوبها درس الخضوع، ليركع الناس للأميركي مثلما تركع الأنظمة في مصر والخليج الفارسي، وغيرها، وليكونوا عبادًا طائعين لواشنطن، كما حكامهم المستأسدين علينا وعلى العدو نعامة، بل أقل.
بهذه الظروف تصبح الأوطان معتقلات كبيرة، مهما اتسعت أراضيها، وتبقى كل شروط الاستمرار رهنًا بالرضا الأميركي، والصهيوني من وراءه، وتبدو كل الحلول الصغيرة والبسيطة تأجيلًا لمصير أسود، وتخففًا من بعض القيود المدمية، لكن يصير الاستمرار في هذا الطريق سيرًا نحو النهاية أيضًا.
بداية، فإن من يتابع الإعلام الخليجي، أو الناقل الأمين عن أسياده الجدد في "تل أبيب"، سيذهل من كم الأكاذيب والتقارير عن دولة يعيش مواطنوها في العصر الحجري تقريبًا، ليست هناك أزمة أو نقيصة إلا وألصقت بطهران، من الفقر إلى التضخم، ومن الجوع إلى سوء توزيع الثروة، ثم تأتي العقوبات الأميركية المشددة عقب انسحاب ترمب من الاتفاق النووي في 8 أيار/مايو 2018، لتكمل رسم الصورة الكبيرة التي يريدون نقلها إلى عقل القارئ ووعيه وقلبه، وملخصها: "هذه دولة تنهار، أو هي على وشك ذلك".
ولأن حتى الأكاذيب لا بد وأن تضم بعض المنطق، فإن إستراتيجية التغطية والتغييب التي لجأ إليها الإعلام الممول خليجيًا عن الجمهورية الإسلامية حملت حقيقة أن الحصار الأميركي طوال سنوات ثلاث، أضيف إلى حصار قائم بالفعل ومستمر منذ نجاح الثورة الإسلامية في 1979، ولم يرخ قبضته على الاقتصاد الإيراني إلا لسنوات قلائل عقب التوصل إلى الاتفاق النووي في لوزان بسويسرا في تموز/يوليو 2015، حاول فيها الأميركي تجربة طريقة جديدة للإخضاع بقيادة باراك أوباما، ليتأتي ترمب ويحرق كل الجسور، في واحدة من استعراضاته الجنونية لاسترضاء الصهاينة.
الغريب في الأمر أن المساعدات الإيرانية للعالم الخارجي، ثم دورها المطلوب والحاضر في الإقليم، للتصدي للوجود الأميركي، يُكذب كل ما يقال عن انهيار اقتصادي، وشيكًا كان أم غير ذلك، وأسطولها النفطي الهائل الذي اتجه في لحظة مباركة إلى الأطلسي لإنقاذ فنزويلا يدهس تلك الفرضية تمامًا.
في الحقيقة، فإن الأسوأ بالنسبة للاقتصاد الإيراني قد مضى منذ وقت بعيد، والمجهود المضني لبناء اقتصاد مقاوم قد أتى أكله بالفعل، خصوصًا خلال العامين الماليين الماضيين، وفي عز القيود الأميركية والحصار الغربي الخانق، بالإضافة لأزمة تفشي جائحة كورونا الكارثية.
كانت طهران محاصرة، ومقيدة، وهي الآن تمد يدها لفك حصار غيرها، وكسر أطواق التبعية، وهذه من وجهة نظر أي عاقل، صعود إلى أعلى.
وللأرقام في قصة الصعود الإيراني حديثها الكافي، والصادر من مؤسسات دولية مرموقة، لا يمكن الدفع بكونها تغازل طهران على الإطلاق، بل تأتي اعترافًا بمنجز اقتصادي عز تحقيقه على دول المنطقة، حتى تلك التي تعيش في مدن الزجاج منعمة بالحماية الأميركية الكاملة، أو تلك التي تتلقى المنح والمساعدات من واشنطن بشكل مستمر وسنوي.
في تقريره الأحدث والأشمل عن اقتصاديات دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وضع البنك الدولي النقاط فوق حروف ساخنة بالنسبة لمدى تأثر اقتصاد الجمهورية الإسلامية بالعوامل الثلاث التي تضرب المنطقة ودولها وموازناتها (الضغوط الاقتصادية الأميركية على بعض الدول العربية، تراجع الطلب العالمي على البترول، التداعيات المالية الكارثية لاستمرار تفشي جائجة كورونا).
وضع البنك الدولي دول المنطقة كافة في حالة الانكماش الاقتصادي، خلال عامي 2020 و2021، باستثناء الجمهورية الإسلامية ومصر وجيبوتي، مع تحطم آمال التعافي الاقتصادي للدول والاقتصاديات الناشئة والمتوسطة، سواء دول الخليج الفارسي الهشة، حيث يتراجع الطلب على البترول بفعل استمرار الإغلاق بالعديد من دول العالم، ودول أخرى استمرت فيها النزاعات، وبالتالي سادت حالة عدم اليقين التي تضرب خطط الإنقاذ في مقتل.
الجمهورية الإسلامية كانت الدولة الوحيدة بين الدول الثلاث التي تعاني من الحصار الأميركي المستمر والمرهق، بالإضافة إلى كونها تقع خارج الفلك الأميركي تمامًا، بما يضيفه من أعباء ضخمة على ميزانية الدفاع والأمن، ويجعل من هدف جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغيرها محض رهان على الوهم، وبالتالي يجعل مما توفره الدولة وحدها هو إمكانية الاستثمار الجديد وحده.
جاءت توقعات النمو لمنطقة الشرق الأوسط وبلدانها قاتمة، إذ توقعت وحدة الاقتصاد الكلي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك الدولي أن تحقق المنطقة نموًا بنسبة 3.8-% (بالسالب) خلال عام 2020، في ظل قيود الإغلاق والتوقعات البطيئة لعمليات التعافي، وفشل حزم الإنقاذ الحكومية المستمرة.
قال البنك الدولي في معرض تناوله لنمو اقتصاد الجمهورية الإسلامية، إن الاقتصاد الإيراني سيحقق معدلات نمو تبلغ 1.7% في 2020، ثم 2.1% في 2021، ثم 2.2% في 2022، بالتزامن مع انتهاء آثار الوباء على الموازنة والمالية العامة تمامًا، كما توقع عودة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للنمو الإيجابي بنسبة 0.5% في 2020، تصل إلى الضعف بالعام التالي 2021.
وارتفعت التقديرات نتيجة كفاءة الأداء، بالمقارنة مع التوقعات السابقة للبنك الدولي، في تقرير "آفاق اقتصادية" والصادر في يناير/كانون ثاني الماضي - أي قبل 3 أشهر فقط - والذي كان يتوقع استمرار معاناة الاقتصاد الإيراني من الحصار وتفشي الوباء، والبالغة 3.7-% (بالسالب)، على أن يبدأ الاقتصاد التعافي في 2021.
والتقرير الصادر من البنك الدولي أعقبته عدة تقارير من صندوق النقد عن كفاءة أداء العملة الإيرانية أمام الدولار، خلال الشهور الأخيرة تحديدًا، والذي كشف ارتفاع الريال الإيراني بمقدار الثلث من حيث القيمة الحقيقية بداية من شهر أكتوبر/تشرين أول 2020، وعزا التقرير الارتفاع المتحقق إلى نجاح جهود السيطرة على التضخم الذي ميز السنوات الثلاث الماضية، وتراجعه من 85% إلى 30% فقط، وأوضح ارتفاع قيمة الريال بنسبة 17% مقابل الدولار الأميركي في السوق الحرة للعملات، وسجلت تداولات بقيمة 250 ألف ريال/للدولار، مقارنة بنحو 300 ألف ريال للدولار في نهاية العام الماضي 2020.
وأخيرًا.. فإن الرهان على استمرار سيادة واشنطن على أسواق العالم محض وهم، وصندوق النقد الدولي، وهو مؤسسة لا يمكن على الإطلاق اتهامها بمحاباة الصين، اعتمدت في تقاريرها الدورية "آفاق الاقتصاد العالمي" والصادر في تشرين الأول/أكتوبر 2020، بيانات الناتج الاقتصادي العالمي المعروف ببرنامج المقارنات الدولية، معلنة عن تخطي الاقتصاد الصيني نظيره الأميركي بفارق مذهل، حيث قدر الناتج المحلي الإجمالي للصين عند 24.2 تريليون دولار، في مقابل الناتج المحلي الإجمالي الأميركي الذي توقف عند 20.8 تريليون دولار فقط، باستخدام مقياس تعادل القوة الشرائية "PPP".