انتصار تموز: "أبُ التاريخ"
ايهاب زكي
قد يبدو الحديث طوباوياً عن انتصارات تموز 2006 في ظل الواقع المعاش لبنانياً، حيث يعيش المنتصرون-الشعب الجيش المقاومة- بين اللصوص عن يمين وكلاب نابحة عن شمال، أو قد يبدو الحديث عن البطولات والكرامات ترفاً، في ظل أزمات الطاقة والدواء والغذاء والليرة، ويبدو الاحتفال والاحتفاء بانتصارات تموز متأخراً وفي غير وقته، والحقيقة أنّ هذه النظرة هي الخطوة الأولى في الطريق نحو استبدال النصر بالهزيمة دون مقابل، وهي بمثابة الخطأ الأول، الذي سيراكم خطايا تؤدي لخسارة الماضي والمستقبل معاً. فحروب المصير لا تنتهي بمجرد صمت المدافع وانجلاء الغبار، خصوصاً أنّها حروب تأتي في زمن الفالق التاريخي، حيث انهيار امبراطوريات ونشوء أخرى، واندثار قوى وانبعاث أخرى، وانتصار تموز كان ضربة المعوّل الأولى في هذا الفالق التاريخي، فهي التي كشفت عن هشاشة الامبراطورية، والتي بدت كعملاقٍ يقف على قائمتين من طين، فاندفعت نحو تغطية هذه العورات بإثارة الحروب في جبهات الآخرين، للابتعاد قدر الإمكان عن استخدام الوسائل الخشنة بشكلٍ مباشر، لما يتضمنه ذلك من خطورة على هشاشة أقدام الطين.
لذلك سيظل انتصار تموز غضاً مهما توالت عليه الفصول، وسيظل هو "أب التاريخ" الحديث، فهو بمثابة عين جالوت التي أسست لاندحار التتار النهائي بل ولتحطيم امبراطوريتهم. هذا الانتصار لم يكن مجرد انتصار في معركةٍ ضمن حربٍ طويلة، بل هي الحرب التي تناثرت معاركها وتوالدت على مستوى الإقليم، وهذا ليس من باب المبالغات الأدبية، بل من واقع الميادين وسير الأحداث وتسلسلها، فالنصر في حرب تموز كان قاعدة الانتصارات في كل المعارك اللاحقة، ولو قُدّرت الهزيمة في تموز لتوالت الهزائم، أو بالأحرى لما كانت المنطقة بحاجةٍ لهزائم جديدة، حتى تخضع لقرنٍ قادم أمام الهمجية الصهيونية الأمريكية، فتموز لن يأتي متأخراً في أي حقبةٍ تاريخية، وسيظل في موعده وعلى موعده، ويتحتم علينا واجباً لا منةً حمايته والتشبث بنتائجه، لأنّها النبراس الهادي ومشدّ الرحال، واللصوص لا يحاولون سرقة لقمة عيش اللبنانيين لأنهم جوعى، بل عينهم على سرقة تموز، فيتبعون استراتيجية جوِّعوهم ليشتروا الخبز بتموز، يبيعون تموز لتوفير خبزهم ولو اضطراراً.
وهنا نسترجع ما قاله سماحة السيد حسن نصرالله "لن نجوع وسنقتلكم"، أيّ كما قاتلناكم وقتلناكم في تموز، سنقتلكم في حرب الجوع، فالسيد نصرالله يعرف أنّ الجوع حربٌ أمريكية "إسرائيلية"، وليست حرباً داخلية، والحقيقة أنّ هناك أزمة إدراك لدى صُناع السياسات العدوانية في واشنطن و"تل أبيب" تجاه انتصارات تموز، فهم يعتقدون أنّ التخمة هي صانعة الانتصار، وبالتالي فالجوع سيكون العدو الألدّ له، وهذا اعتقاد يشبه اعتقاد قريش بإله العجوة، عبدوه فإن جاعوا أكلوه. والمنتصرون في تموز على امتداد رقعة المقاومة، لا يعبدون إلهاً من عجوة، فالانتصارات في تموز-وأنا أتعمد أن أقول انتصارات تموز بالجمع لا انتصار تموز، لأنّ كل انتصارٍ لاحق وُلد في تموز وترعرع في سوريا وفلسطين والعراق واليمن-، بالنسبة للمنتصرين هي حجر الرحى لأمةٍ طحنتها الهزائم، فأصبحت هي من تطحن الهزائم في رحى تموز، وهذه الرحى التي طحنت "الميركافاه" في الحجير، وطحنت الإرهاب والتكفير والتقسيم والتفتيت في سوريا، وطحنت القبة الحديدية في فلسطين، وطحنت كل الحديد في كل الساحات، لن تكون عاجزة عن طحن الجوع، لذلك فالكلاب تنبح تموز لإجباره على تسليم رحاه، ويعود ليعيش طحيناً على موائد اللئام لا طاحناً لموائدهم، فمن أتخمته الرحى بالعزة وأمل المستقبل، لا يكسرها ولا يبيعها لأنها شحيحة القمح، بل يزيدها قمحاً، فالقمح ليس بديلاً عن الكرامة، خصوصاً ذلك القمح الذي يجعلك متسولاً، بلا رحى حديدٍ ولا رحى قمحٍ.
ذكرى شخصية
مع بداية العدوان الصهيوني على لبنان في تموز عام 2006، كانت غزة قد خرجت لتوها مما يمكن تسميته حرب شاليط، حيث كانت المقاومة الفلسطينية قد أسرت الجندي الصهيوني جلعاد شاليط، فشنّت "إسرائيل" حرباً طاحنة في سبيل استراداده أو قتله أو كلاهما معاً، وحين قامت المقاومة اللبنانية بأسر الجنديين الصهيونيين، توقف العدوان على غزة واتجه المجهود الحربي للعدو إلى لبنان، فكانت غزة تعاني من آثار العدوان على شكل حصارٍ خانق، فلا وقود ولا كهرباء ولا حتى شموع، وكانت حتى البطاريات لتشغيل أجهزة الراديو سلعة غالية وشحيحة، وكان هذا هو الهمّ الأكبر لمتابعة مجريات العدوان على لبنان، ولكن في اللحظة التي استمعت فيها عبر الإذاعة لجملة السيد نصرالله "انظروا إليها إنها تحترق وستغرق في عرض البحر وعلى متنها عشرات الجنود الصهاينة"، لم أعد مهموماً بتوفير البطاريات، فقد حُسمت الحرب، وأصبح الانتظار فقط لتوقيت إعلان النصر، فلم أرَ الأمر مجرد إغراق مدمرةٍ "إسرائيلية" في حربٍ قد تطول، بل إغراق الحلم الصهيوني برمته، إغراق "إسرائيل الكبرى" بكل هرطقاتها التوراتية، إغراق جبروت إجرامها وصلف كبرها، وقد أصبح الحصار والظلمة في غزة منذ تلك اللحظة، على هامش التفكير كأن لم يكن، وقد تحوّل القهر في لمح البصر إلى طمأنينة، كما تحوّل قهر التشريد والتهجير في لبنان إلى طمأنينة، لأنّ الانتصار في تلك اللحظة وما توّجه من انتصاراتٍ حتى وقف النار، لم يكن مجرد انتصار عابر، شيء ما في داخلنا لا ندرك كنهه، أدرك أننا أمام انتصارٍ في حربٍ ستولد انتصاراً في كل معركةٍ لاحقة، وهذا ليس ببعيد عمّا يشعره المنتصرون في حرب الجوع، وحين نقول أنّ انتصار/ات تموز هو أب التاريخ، ندرك يقيناً أنّ التاريخ سيعترف بهذه البنوة طائعاً مختالاً.