اختبارات ما بعد الهزيمة الإسرائيلية: الحصار أداةً لتعويض الخسائر
يحيى دبوق
سريعاً، بدأ العدو الإسرائيلي إعداد أجندته لما بعد وقف إطلاق النار مع فصائل المقاومة في غزة. أجندة تستهدف، بصورة رئيسة، محو النتائج التي أفرزتها معركة «0سيف القدس»، خصوصاً لناحية الصورة الحمائية للفصائل بالنسبة إلى الفلسطينيين. في سبيل ذلك، سيتركّز العمل، في الفترة المقبلة، على إعادة تشديد الحصار على غزّة، ضمن ضوابط تستهدف انتزاع تنازلات من القطاع. كما سيتمّ الاشتغال على معالجة الأضرار التي لحقت بالسلطة الفلسطينية بوصفها وكيل الاحتلال وراعي مصالحه، فضلاً عن إعادة تفعيل عمليات التضييق على المقدسيين، إنما ضمن سقف لا يستلزم، من وجهة النظر الإسرائيلية، خرق الهدنة من جانب الفلسطينيين
بدأت إسرائيل مساراً طويلاً ومحفوفاً بالمخاطر، يهدف إلى احتواء نتائج المواجهة العسكرية الأخيرة مع قطاع غزة، والتي تُعدّ في ذاتها - إن تَرسّخت - قابلة لأن تؤذي الأمن الإسرائيلي في أكثر من ساحة واتجاه، بما يتعدّى ساحة الصراع مع غزة، بل والساحة الفلسطينية الأوسع، وأن تتسبّب بأضرار استراتيجية على المستوى الإقليمي، حيث التهديدات والتحدّيات لا تُقارَن. احتواء النتائج، وهي متعدّدة ومتشعّبة ومتداخلة، يبدأ من العمل السريع على خفض توقّعات الجانب الفلسطيني (الغزّي)، المخاطَب أوّلاً وابتداءً عبر الإجراءات الإسرائيلية الجديدة، وكذلك المقدسيون، منطلق شرارة التصعيد إن حصلت. والهدف هو أن لا يذهب الفلسطينيون بعيداً في فرضياتهم في شأن إمكانات انكفاء إسرائيل في القدس، أو الضفة، ناهيك بقطاع غزة نفسه.
مسار الصدّ، إن صحّت العبارة، لا يقتصر على التهديد العسكري والأمني بأن تعاود إسرائيل شنّ ضربات قاسية على القطاع، أو ملاحقة قادة المقاومة فيه، بل يشمل أيضاً ضغوطاً اقتصادية وسياسية ونفسية تتعلّق بالحصار أولاً، وتخصيص عائداته لخدمة مصالح إسرائيل على أكثر من صعيد، من دون ربطها بشكل شبه حصري، كما كانت عليه الأوضاع البينيّة عشية المواجهة، بالتصعيد العسكري ومُسبّباته. في اتجاهات أخرى، من المتوقّع أن تعمد إسرائيل إلى إعادة الاعتبار للكيانات الفلسطينية التي تدور في فلكها، عبر التشويش على صورة فصائل المقاومة في غزة، كما ترسّخت في الوعي الجمعي للفلسطينيين كنتيجة للمواجهة الأخيرة، وتحديداً في ما يتعلّق بالصورة الحمائية للفصائل؛ أوّلاً من أجل إفهامهم أن لا معادلة حماية للقدس من غزة، وإن كانت موجودة ومُفعّلة عملياً، وثانياً أنه إن كان على إسرائيل التراجع والانكفاء، فليكن ذلك لمصلحة السلطة أو المصريين أو أيّ جهة ثالثة غير الفصائل، وفي هذا تفصيل يطول سرده.
من ضمن التوقّعات الأكثر ترجيحاً العودة إلى تشديد الحصار على غزة لكن ضمن ضوابط وأهداف
في الاتجاه المُتقدّم، استُؤنفت عملية دخول المستوطنين إلى باحات الحرم القدسي، برعاية الأجهزة الأمنية الإسرائيلية منعاً للاحتكاك مع المقدسيين. وهو إجراء سارعت إليه إسرائيل بعد ساعات من وقف إطلاق النار، كي تَمنع ترسُّخ اعتقاد لدى الفلسطينيين بأنها ستتراجع عن هذا "الحق" الذي استحصلت عليه من الجانب الأردني والسلطة الفلسطينية، عام 2003، وهي تحرص على تفعيله مذّاك من دون انقطاع. كذلك، بدأت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التضييق على مَن تعتبرهم "مفاتيح" تحريك الاحتجاجات في القدس، في إجراء عقابي ردعي في ذاته ربطاً بالاحتجاحات السابقة، واستباقي أيضاً لردع "المفاتيح" عن معاودة النشاط الاحتجاجي إن تشكّلت دوافعه في القدس، ما يشير بالتبعية إلى إجراءات إسرائيلية مقبلة، قد تدفع المقدسيين إلى الاحتجاج الميداني.
واحد من "التعديلات" الإسرائيلية المتوقّعة، هو ما يهدف إلى منع الفلسطينيين من الالتفاف حول فصائل غزة بوصفها حامية قضاياهم، وذلك عبر إعادة الاعتبار إلى السلطة الفلسطينية، التي تضرّرت مكانتها بشدّة في الوعي الفلسطيني نتيجة المواجهة الأخيرة. وهو ضرر تدرك تل أبيب جيداً أنه ينسحب مباشرة على أمنها وخياراتها واستراتيجيتها العامّة لإنهاء القضية الفلسطينية، الأمر الذي يتعذّر عليها السماح به. لكن كيف ومتى وبأيّ أسلوب يمكن لإسرائيل أن تعيد الاعتبار إلى السلطة؟ سؤال تتعذّر الإجابة عليه في ظلّ التجاذب الإسرائيلي الداخلي والسباق على التطرّف، والذي يمنع اتّخاذ قرارات، ولو شكلية، لمصلحة السلطة.
من ضمن التوقّعات، وربّما الأكثر ترجيحاً للفترة المقبلة، وهو أيضاً ما بدأت إشاراته تَرِد من تل أبيب، العودة إلى تشديد الحصار على غزة، لكن ضمن ضوابط وأهداف، من بينها: أوّلاً، أن تكون شدّة الحصار دون السقف الذي تتوقّع إسرائيل أن يتسبّب برفع دافعية الفصائل للعودة إلى التصعيد العسكري؛ ثانياً، تبادلية التنازل بين تليين الحصار من جهة وتحقيق مصالح تخدم أهداف المرحلة لدى إسرائيل من جهة أخرى، وهذا ما يُعدّ انقلاباً أو إضافة على معادلات الماضي التي كانت تقضي بأن تلتزم غزة بالهدوء مقابل العائد الاقتصادي والأموال القطرية (والإماراتية)، المسموح إسرائيلياً أن تصل إلى القطاع، ضمن سياسة تبادلية التنازلات. من الضوابط أيضاً، أن تظلّ أيّ إجراءات ضدّ المقدسيين دون المستوى الذي يُلزم قطاع غزة بالردّ، وذلك واحد من التحدّيات التي ستكون ماثلة أمام صاحب القرار في تل أبيب، إذ كيف يمكن المضيّ قُدُماً في سياسة تهويد القدس، على رغم السيف المُصْلَت من القطاع؟
كلّ تلك التحدّيات تنتظر الفلسطينيين، وهي تتطلّب منهم اتخاذ أنجح المواقف والردود، والاختبار لن يطول، حيث من المتوقّع أن يُقدّم المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية مطالعته في الأسبوع المقبل، حول قضية إخلاء البيوت في حيّ الشيخ جراح من ساكنيها المقدسيين. ومن شأن مضمون المطالعة أن يدفع إلى بلورة "رأي قانوني" لدى القضاء الإسرائيلي، يتحدّد بموجبه مثير الإخلاء، وبالتبعية إمكانية عودة الاحتجاجات ولاحقاً التصعيد، أو انكفاء إسرائيل عن الاعتداء وتجميده لمنع التصعيد مع غزة، في انتظار متغيّرات لاحقاً لإعادة إحياء ملفّ التهجير من جديد. من المتوقّع، أيضاً، أن تبتّ محكمة الاحتلال المركزية في القدس في دعوى مستوطنين يدّعون حقاً في منازل المقدسيين في حيّ سلوان، في سياق السياسة نفسها التي أشعلت الاحتجاجات في "الشيخ جراح"، وتسبّبت بالأيام القتالية مع غزة. الكرة الآن في ملعب الاحتلال، وإن كانت في الوقت نفسه في ملعب الفصائل، لناحية ضرورة أن تُثبت الأخيرة إرادة تفعيل القوة، وليس وضع اليد على الزناد فقط.