نمط “التبعية” في إدارة “بايدن” لأزمات الإقليم
د. جمال زهران
في تفسير ما يحدث الآن في الإقليم، بعد أن تولى جو بايدن، رئاسة الولايات المتحدة في 20 يناير الماضي (2021)، فإنّ نمط "التبعية” هو الإطار التحليليّ الصالح لفهم ما يجرى. فهذا النمط يقوم على أساس فكرة "المركز والتوابع”، حيث إنّ المركز هو الذي يرسم ويخطط ويتخذ القرارات، وإنّ هناك الفروع التي تقوم بالتنفيذ وفقاً لما يمليه عليها السيد المركز. ولا تستطيع هذه الفروع أن تخرج على تعليمات المركز، باعتبار أنها تابعة تبعية مطلقة. ولعلّ هذه التبعية مصدرها موضوعي وشخصي. فالموضوعي هو ذلك الارتباط بالنمط الرأسمالي بدرجاته المختلفة، والتي قد تصل إلى التوحّش، وقد تنخفض إلى الاعتدال بعض الشيء، إلا أنه ليس مسموحاً لأحد الأطراف أو الفروع الخروج عن هذا النمط وهو القائم على حرية السوق، وتعظيم الخاص، وليس مهماً الأخذ بالجناح الثاني وهو الليبرالية السياسية. أما الشخص فيتمثل في أنّ استمرار حكام الفروع، بل والإتيان بهم أصلاً، يرتهن بإرادة ورغبة وتخطيط ورضى، المركز. ولعلّ ذلك يجعل من خروج التوابع عن المركز يكاد يكون صعباً للغاية، إن لم يكن مستحيلاً.
في هذا السياق، فإنّ إدارة بايدن خلال شهر واحد من تولي الرئاسة في أميركا، قد طرحت العديد من المبادرات بشأن الإقليم، وهو ما يفسّر سرّ الاهتمام الأميركي بالمنطقة بالمقارنة مع المناطق الأخرى في العالم. وقد يكون ذلك راجعاً بالأساس إلى نقطتين، الأولى: وجود الكيان الصهيوني في قلب الإقليم على أرض فلسطين المحتلة، والثانية: هو الوضع الجيواستراتيجي للإقليم باعتباره وسط العالم. فما الذي طرحته إدارة بايدن حتى الآن؟
طرحت إدارة بايدن، رؤية استراتيجية متكاملة حسب تقديري، وبمنهج الخطوة/ خطوة. بمعنى أنّ كلّ يوم يصدر قرار أو أكثر إزاء الإقليم، وأصبح الجميع ينتظر ما يصدر عن بايدن ومساعديه، كلّ يوم.
وقد كانت البداية هي ضرورة وقف الحرب على اليمن، وخاطبت السعودية والإمارات بذلك، ورحبتا على الفور، لدرجة أنّ الإمارات بدأت تفكيك قاعدة عسكرية لها في اريتريا، وسحب الوجود العسكري لها، في مناطق محدودة في عدن، وجزيرة سوقطرة، وإعطاء ظهرها للموضوع نهائياً. في الوقت نفسه الذي قبلت السعودية ذلك، بعد ما يقرب من ست سنوات فشل، وأصبح الحوثيون، ربما في المعادلة بعد أن كانوا مجرد كيان هش في تقدير السعوديين. وتأكد بالتالي نمط التبعية، حيث إنّ المركز قرر وقف الحرب في اليمن، وقبلت الأطراف المباشرة في الحرب طبقاً لتعليمات المركز (أميركا)، خاصة بعد القرار الأميركي بوقف التسليح لكلّ من الإمارات والسعودية!
وتلت ذلك خطوة كبرى، في إعادة الولايات المتحدة للاتفاقية النووية مع إيران، وأخيراً قرّرت إدارة بايدن في ضوء الرسائل المتبادلة وغير المباشرة، بين أميركا وإيران، أن تعود إلى الاتفاقية، ووافقت على استمرار الحوار مع إيران عبر الاتحاد الأوروبي على خلفية الاتفاق المعروف بـ (5 + 1).
كما تضمّن القرار الأميركي، بدء رفع العقوبات على إيران، بداية بالاتصال بأمين عام الأمم المتحدة بسحب مطالبة أميركا في عهد ترامب، بتطبيق العقوبات الدولية على إيران، ثم الانتقال بعد ذلك إلى رفع كامل لهذه العقوبات الأميركية على إيران، وهو ما يشير إلى حقبة جديدة من العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، وعودة الدفء إلى العلاقات الأميركية الأوروبية بعد برود استمرّ أربع سنوات في عهد ترامب.
وتشير الصحف العالمية داخل الولايات المتحدة، والقريبة من الإدارة الأميركية مثل (واشنطن بوست، وفورين بوليسي)، إلى أنّ بايدن لم يستشر أو يبلغ السعودية (سلمان)، أو الكيان الصهيوني (نتنياهو)، بقراراته إزاء إيران والعودة إلى الاتفاق النووي، قبل إعلانها، بل وربما لم يتمّ التنسيق المسبق قبل القرارات أو بعدها، إلى حدّ كبير. وبالتالي فإنّ المركز يدير الملف الإيراني وفقاً لرؤيته ومصالحه، وعلى الأطراف والفروع التنفيذ وعدم إعلان رأي آخر!
وفي تفسير ذلك الانفراد الأميركي بالقرارات، فإنّ هذا يرجع إلى أنّ إدارة بايدن تصرّ على التعامل مع الإقليم وفقاً لاستراتيجية جديدة، ومتكاملة. ويتساءل البعض، هل هناك إمكانية للخروج عن قرارات إدارة بايدن، من الفروع، واحتمال بإظهار عدم الطاعة لمشيئة المركز؟! أرى أنّ ذلك لا يمكن أن يحدث، حيث إنّ المركز يُصرّ على إظهار أوراق الضغط على هذه الفروع لإجبارها على الانصياع، وفقاً للإرادة الأميركية.
فنجد أنّ إدارة بايدن، أعلنت أنها ستفتح وتكشف عن الملف السري لمقتل جمال خاشقجي في السفارة السعودية في تركيا، ويشمل مرتكبي الجريمة في مقدمتهم محمد بن سلمان والمسؤولين الكبار في السعودية والمنطقة! وذلك خلال أسبوع! ويعني ذلك عدم رضاها عن ابن سلمان، واحتمالات بإعادة النظر في منصبه الحالي والمستقبلي ككلّ، وعدم رضاها على من اشترك من المسؤولين التابعين في الإمارات ودول أخرى شاركت في الإقليم. ولمجرد التلويح بفتح هذا الملف، كفيل بإسكات كامل لمحمد بن سلمان، ومحمد بن زايد! وعلى الجانب الآخر، فإنّ مجرد الإشارات إلى نتنياهو، بأنه لم يعد مقبولاً لدى إدارة بايدن، بما يعني قرب رحيله في الانتخابات المقبلة، وتأخر اتصال بايدن معه، لثلاثة أسابيع، هو كفيل بإسكات نتنياهو، أيضاً.
بل إنّ قرارات بايدن، بعدم الاعتراف بـ "السيادة” الصهيونية على الجولان، وإلغاء قرار ترامب في هذا الصدد، وكذلك إلغاء قرار ترامب بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، هي إشارات لوقف أو تجميد التوسّع في التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، وصفقة القرن!
كذلك فإنّ قرارات بايدن بخصوص القضية الفلسطينية، من العودة إلى منظمة الأونروا، وتمويلها، وإعادة صرف المعونة الأميركية للسلطة الفلسطينية، وإعادة التمثيل الفلسطيني في أميركا، وغيرها، هي إشارات تعيد التوازن النسبي للسياسة الأميركية الجديدة في المنطقة. وهذا لا يعني أنّ سياسات أميركا عامة، هي سياسات عادلة تجاه القضية الفلسطينية. إلا أنّ الجديد هو أنّ إدارة بايدن، تطرح رؤية استراتيجية، وتسعى إلى فرضها على التوابع، إلى حدّ الإجبار. ويمكن فهم واستيعاب هذه الرؤية الشاملة من خلال متابعة الخطوات والقرارات التي تصدر تباعاً عن إدارة بايدن، كلّ يوم.
وخلاصة القول: إنّ الإقليم يدخل مرحلة عصف أميركي شديد، وإنّ محور المقاومة مطالب بتتبّع ذلك بحرص وحذر، من دون تجاهل أنّ أميركا وكلّ المستعمرين لا يحترمون إلا الأقوياء، ولا يتراجعون إلا أمام القوة.