من التوظيف السري الى العلني: استثمار واشنطن في الإرهاب
د. محمد مرتضى
إن توظيف الحركات الإرهابية لخدمة مصالح الولايات المتحدة ليس بالأمر الجديد، فبرامج الاستخبارات الأميركية (C.I.A) السرية، مليئة بهذا النوع من العمليات، والتي تجسدت كثيرًا في قمع الثورات التي كانت تنتفض في أميركا اللاتينية. ومع ذلك، فإن البرنامج السري في دعم "المقاومة الأفغانية" ضد الاحتلال الشيوعي، ودعم ما عُرف بالأفغان العرب، ولاحقًا تنظيم "القاعدة"، يعتبر من أبرز برامج الاستخبارات الأمريكية في توظيف هذا النوع من الحركات في صراعات واشنطن على الهيمنة.
فتنظيم "القاعدة" الذي لقي دعمًا كبيرًا من الاستخبارات الأمريكية والسعودية، والذي كانوا يطلقون على عناصره اسم "المجاهدين"، هو نفسه الذي تحول الى تنظيم إرهابي في الأدبيات الأمريكية. فوصم الحركات بالإرهاب لا يرتبط بالأدبيات الأمريكية، بما تحمله هذه الحركة من فكر، بل بالوجهة التي توجه بندقيتها اليها.
ولعل هذه المفارقات تتجلى في أكثر صورها وضوحًا في العلاقة التي تربط واشنطن بالرياض؛ فرغم أن خمسة عشر رجلًا من أصل تسعة عشر ممن شنوا هجمات الحادي عشر من أيلول هم ممن يحملون الجنسية السعودية، ورغم أن العدد الأكبر من الأجانب الذي شنوا عمليات انتحارية على المدنيين في العراق وسوريا ضمن تنظيم "داعش" هم من السعوديين أيضًا، الا أن العلاقة الأمريكية - السعودية لم تصب بانتكاسة كبيرة، ولا المملكة تعرضت لعقوبات، ولا حُمّلت المسؤوليات، رغم أن الجميع يعلم أن الفكر المتطرف الذي يحمله هؤلاء، هو في خلفيته الأساسية ينطلق من "الفكر الوهابي" الحاكم في الرياض.
ليس عصيًا على الملاحظة، كيف قامت الاستخبارات الأمريكية بتوظيف هذه الحركات ضد جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي، ولا في توظيفها في أفغانستان، ثم في الشيشان والبوسنة، ثم في اليمن في تسعينيات القرن الماضي أيضًا، وصولًا الى العراق، ثم سوريا.
لقد تراوحت التوظيفات الأمريكية للإرهاب بين السرية والعلنية، تبعًا للساحة المستهدفة وحساسيتها، وللخطط العسكرية والسياسية في أجندة واشنطن الطويلة.
فإذا أخذنا تنظيم "داعش" كنموذج، يمكن ملاحظة استراتيجية التوظيف هذه بُعيد انطلاق عمليات المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي، والتي اعتمدت على مسارين: الأول: عمليات انتقامية بأسماء وهمية تطال الشيعة والسنة لافتعال فتنة مذهبية، والثاني: تلميع صورة حركات إرهابية عبر تحميلها مسؤولية بعض العمليات ضد الأمريكيين لاكتساب شعبية يمكن توظيفها لاحقًا (الزرقاوي نموذجًا)، وقد تأكدت هذه الحاجة للتلميع في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011؛ حيث استطاع "داعش" اكتساح أجزاء واسعة من العراق وسوريا عام 2014، كانت كافية لعودة أمريكية سريعة الى المنطقة تحت عنوان محاربة الإرهاب.
بُعيد هذه العودة، كان أكثر المتفائلين في التصريحات الأمريكية أن الحملة ضد "داعش" تحتاج الى عشر سنوات على الأقل. وهي مدة، افترضت الإدارة الأمريكية أنها كافية لإحداث تغييرات في المنطقة كفيلة بترسيخ هيمنة طويلة الأجل، واجراء تعديلات بنيوية في العراق وسوريا. وكان الظن أن سوريا، التي نجت من السقوط خلال سنوات ثلاث قبل الدخول الداعشي، غير قادرة على الصمود بعده. الا أن حسابات الحقل الأمريكي لم تتوافق مع حسابات "بيدر" المقاومة؛ فقد كان للتحرك السريع والفاعل من قبل الجمهورية الإسلامية في ايران في دعم الشعب العراقي، والذي ترافق مع الفتوى الشهيرة للمرجعية الدينية في العراق، أثره الكبير في سرعة احتواء الموقف، ووقف الانهيار، قبل عودة الإمساك بالمبادرة، وبدء شن الهجوم المضاد، بعد تشكيل الحشد الشعبي وإعادة تنظيم جزء كبير من الجيش العراقي.
إن حجم الانهيار الذي أصاب "داعش"، أصاب واشنطن أيضًا، حيث بدا أن الرهان على التنظيم للصمود فترة طويلة تسمح لها بالهيمنة رهانًا خاسرًا، جعلها في عديد من المواضع، ترسل عتادًا عسكريًا للتنظيم في استراتيجية يمكن وصفها بأنها "استراتيجية الأخطاء المتكررة"، وهو اسم استوحيناه من أن رمي العتاد هذا كانت تبرره واشنطن بأنه حصل عن طريق الخطأ.
هذا الدعم "السري-المعلن" إن صح التعبير، لم يسعف التنظيم، ولم يوقف انهياره، ما جعل واشنطن تسرع من بعض عملياتها في سوريا في دعم الكرد هناك، والسيطرة على شرق الفرات لمحاولة قطف الانتصار على "داعش"، ترافق ذلك مع بناء قاعدة عسكرية أمريكية في منطقة التنف، ومخيم للاجئين في نطاقه (مخيم الركبان).
فليس مصادفة أن تقع القاعدة في منطقة قريبة من الحدود السورية - العراقية، كما ليس مصادفة أن تكون في موقع يمثل امتدادا للبادية السورية التي تربط الخط الممتد من تدمر الى الحدود العراقية. وهي منطقة رخوة بطبيعة الحال، لصعوبة السيطرة عليها، او التمركز فيها.
بعد انتهاء المعارك الكبرى مع داعش في العراق وسوريا، ووقوع عديد كبير منهم في الأسر بيد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وبيد الجيش والحشد الشعبي في العراق، تحولت انظار واشنطن الى السجون التي تحتوي على العناصر الداعشية، بوصفها الخزان الذي يمكن منه مد التنظيم "بالدم" لإعادة بث الحيوية فيه.
في العراق، حصل العديد من عمليات الفرار الجماعي من بعض السجون وإن كانت محدودة، أما في سوريا فقد كان الوضع مختلفًا بشكل جذري، بسبب التحديات المتعددة الجوانب التي تواجهها واشنطن هناك؛ حيث روسيا، وايران، وتركيا، إضافة للجيش العربي السوري نفسه.
بعيد انتهاء معركة الباغوز، وهي المعركة التي اعتُبرت أنها نهاية السردية الرسمية الأمريكية في "هزيمة" داعش، بدأت واشنطن تمهد لعودة، بل إعادة، "داعش"، ليس فقط عبر مقالات ودراسات تحذر من إمكانيات التنظيم في إعادة تنظيم صفوفه، بل أيضًا، وهو الأخطر، في التحذيرات المتكررة من أن "قسد" لن تستطيع طويلًا حماية السجون التي تحتوي على عناصر "داعش" وعائلاتهم، وهي تحذيرات يمكن وضعها في خانة التهديدات والخطط الأمريكية المبطنة لعمليات هروب جماعي لتلك العناصر، وهذا ما حصل بالفعل في بعض السجون، ومن المرجح أن يتسارع في مراحل لاحقة.
لكن الأكثر لفتًا للأنظار، هي عمليات الترحيل العلني لمجموعات من "داعش" عبر مروحيات أمريكية تحط قرب السجون. ومن الملاحظ أن عمليات الترحيل هذه تركز، ليس على عناصر عادية، بل على عناصر سبق لها أن كانت تقود مجموعات وفصائل في التنظيم، ترافق ذلك مع بدء "داعش" لعمليات عسكرية منظمة في البادية، تنطلق مجموعاتها من مناطق قريبة من "المحمية" الأمريكية في التنف، وتعود اليها بعد إنجازها للمهمة المكلفة بها.
هذه العمليات الداعشية تتسم بالدقة لا سيما في عمليات الرصد، لكنها وبشكل لافت، تعتمد على المجموعات الصغيرة، ما يجعلنا نفهم حقيقة حاجة واشنطن لعناصر ذات خبرة في قيادة مجموعات أكثر من حاجتها لعناصر مقاتلة عادية.
ما يميّز الحراك الأمريكي اليوم في العراق وسوريا، هو التحول من التوظيف السري لهذه الجماعات، الى التوظيف العلني لها، فواشنطن لم تعد تُخفي عمليات النقل لهذه العناصر، ولا هي أنكرت أو قدمت أدلة على عدم صحة هذه المعلومات، بل باتت العلاقة التي تربط واشنطن بهذه الجماعات الإرهابية هي انشاء - دعم – تحريك، أكثر من توظيف. إنه ببساطة استثمار أمريكي بالإرهاب، بدأ منذ عقود، ولن يتوقف اليوم؛ لكن تبقى القضية أن ليس كل استثمار ناجح، وتبقى المهمة الأساس لمحور المقاومة، ليس في جعل هذا الاستثمار خاسرًا، بل باهظ التكاليف والخسائر.