سياسة الانقلابات والفساد السياسي الأميركي في لبنان
عبير بسام
هل كان من الممكن أن تكون تصريحات كل من جيفري فيلتمان وروبرت فورد عن الدور الأميركي في سوريا ولبنان أكثر وقاحة مما هي عليه في واقع الأمر؟ بالطبع نعم! فأمريكا التي عرفتها المنطقة العربية منذ أربعينيات القرن الماضي، هي ذاتها التي نعرفها اليوم، وهي نفس أميركا التي سهلت مهمة رجال الصهاينة لإنشاء الكيان الاسرائيلي، وهي التي أقرت عقيدة أيزنهاور، والتي وضعت خصيصًا في العام 1957 لقوننة مجيء "نيوجرسي" إلى شواطئ لبنان، تحت مسمى منح أي دولة حق طلب التدخل الأميركي للمساعدة اقتصادياً وعسكرياً.
وحتى بعد تفجير المارينز في العام 1982، لم تغادر نيوجرسي شواطئ لبنان إلّا بمجسمها، ولكن روح الخراب الأميركي لا تزال ترفرف في سمائه وسماء المنطقة، وهو ما عبر عنه الثعلب الأميركي هنري كيسنجر في العام 1974، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بعام واحد، ورأى أن لبنان: "خطأ تاريخي" أو أنّه "خطأ جغرافي"، وأنّه كان على لبنان توطين الفلسطينيين وإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي. كلام كيسنجر لا يخرج عن إطار التصريحات الجديدة القديمة التي يومياً نسمعها، والتي تهدد باستقرار وأمن لبنان.
منذ نهاية العام 2018، وبعد الانتصارات التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه في سوريا، والتي استطاعوا بموجبها إعادة سيطرة الدولة على معظم الأراضي السورية، وبعد تصريح دونالد ترامب بقراره سحب الجيش الأميركي من الشمال السوري، ابتدأ حينها التحضير لسياسة أميركية جديدة في المنطقة، والتي تضمنت زيادة العقوبات الاقتصادية على سوريا فكان لذلك تداعياته الشديدة في لبنان. ومن الواضح أن سوريا لم تكن معنية بالحصار بقدر ما كان لبنان هو المعني به. وبات واضحاً يأس الإدارة الأميركية من السيطرة على سوريا والانقلاب على رئيسها والقرار السياسي فيها، مما صعب قطع العلاقة ما بين إيران وسوريا وبالتالي محاصرة حزب الله.
فتقرر آنذاك محاصرة حزب الله في داخل لبنان وإخراجه من المعادلة السياسية اللبنانية، وإن كان ذلك يعني نشر الفوضى وإعادة الحرب الأهلية فيه أملا في وضعه تحت الوصاية الدولية والتدخل المباشر لنزع سلاح المقاومة. والهدف من وراء ذلك بات واضحاً: أمن "اسرائيل"، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين والسوريين فيه، وفرض اتفاقيات التطبيع، وعوداً على بدء: إنهاء القضية الفلسطينية ابتداءً من لبنان.
في أيلول من عام 2019، انهالت زيارات المسؤولين الأميركيين على لبنان ولم يبق "ديفيد" في وزارة الخارجية الأميركية إلا وأتحف هذا البلد بزياراته وتصريحاته النارية. وكان أهمها الرسالة التي حملها مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب، مارشال بيلنغسلي، الذي صرح بأن "هدفنا إفقار حزب الله نهائياً"، وفي تصريح سابق له جاء قبل عام وصف فيه حزب الله بأنه "سرطان".
بعد شهر من الزيارات الأميركية، ابتدأت التحركات المطلبية ضد الحكومة في لبنان في 17 تشرين الأول/ اكتوبر 2019، والتي سارعت أمريكا وحلفاؤها في لبنان لركوب موجتها. وحتى اليوم ما يزال لبنان يعيش تداعيات الحراك الذي ابتدأ كمظاهرات ضد الفساد والغلاء ليتحول الى حوادث تكسير وتحطيم وقطع طرقات وشل للحركة المعيشية، وما تلا ذلك من الفضائح التي تكشفت الواحدة تلو الأخرى وأهمها انحباس أموال المودعين في لبنان، وهبوط سعر الليرة اللبنانية وغلاء الأسعار، وتردي الأوضاع الاقتصادية. وترافق ذلك مع تصاعد الدور الأميركي عبر مروحة تحركات المسؤولين الأميركيين الواسعة، والاعترافات المترافقة حول تمويل التحركات في الشارع اللبناني.
التدخل الأميركي الموغل عبر التاريخ في لبنان يمارس اليوم بشكل وقح، وقد عبر عنه وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل في أيلول/ سبتمبر العام الماضي، في تصريحه المباشر حول الأموال والتي وصلت قيمتها إلى 10 مليارات دولار، والتي دفعتها أميركا لحلفائها في لبنان من أجل العمل على وضع استراتيجية حصار حزب الله في لبنان، والتحريض على الحزب من خلال اتهامه بأنّه يحمي الفاسدين وبأنه غير مهتم بالإصلاح ويتسبب بإفقار الناس.
وتوالت اتهامات شنكر للحكومات السابقة وسياسيين بالفساد. وتتأمل الولايات المتحدة من ذلك عزل الحزب وتصعيد الغضب الشعبي ضده. وهو اتهام يأتي في إطار خلط تاريخي مقصود، ودعم ملغوم لمن التقاهم شنكر في السفارة الأميركية من مجموعات من المجتمع المدني ومن رجال الأعمال والنواب المستقيلين ومجموعات "الثورة" ليستمع إلى ما سيقولونه حول استراتيجيتهم للتغيير. ولكن الطريق بحسب شنكر هو طويل ولا يعرف مدى طوله لأن "التغيير يجب أن يبدأ من الداخل" ثم أسمعهم الكلمات المشجعة. اذاً التوجه نحو اتهام الحكومات السابقة وسياسيين بالفساد، لم يكن غيرة أميركية على لبنان، وإشارة أصابع الاتهام إلى حزب الله ووضع عدد ليس بالقليل من أفراده ومن حلفائه على اللائحة السوداء ولائحة العقوبات الأميركية الاقتصادية لم يأت من فراغ.
واليوم يعد لافتا ما كتبه كل من فيلتمان وفورد حول فشل السياسة الأميركية في سوريا، وأن تدخل الجيش الأميركي في سوريا كان خطاً استراتيجياً، وهما بحق تصريحان تاريخيان حول التدخلات الأميركية في سياسات الدول الداخلية. وكما جرت العادة، لم ينس فيلتمان لبنان خلال اللقاء الأخير، الذي أجرته معه جريدة الشرق الأوسط، والذي عبر فيه صراحة عن موقف ادارته ضد "وجود حزب الله في سوريا ولبنان"، وللعلاقة ما بين سوريا وإيران، والتي باتت أعمق مما كانت عليه في العام 2011، لهو دليل آخر على أسباب التدخل الأميركي المباشر في لبنان وأهدافه التي أقرت منذ الخمسينيات عندما انضم لبنان بقيادة كميل شمعون لحلف بغداد والذي تسبب بثورة اجتاحت لبنان، تدخل، يأتي اليوم مستهدفاً الإطاحة "بالخطأ التاريخي" وإعادة تقسيمه وإنهاء المقاومة فيه. فهل يعي ذلك اللبنانيون؟