سقوط تاريخيّ للمعادلات العربيّة
د. وفيق إبراهيم
جامعة الدول العربية بما هي آلية للتنسيق بين البلدان الأعضاء فيها ومجلس التعاون الخليجي الذي يضم دول شبه جزيرة العرب لتحقيق تنسيق متنوّع بينها وصولاً الى التكامل «المستحيل».
هذه الآليات وصلت الى حائط مسدود ومرحلة انكشاف كامل إنما بعد عام تقريباً على ولادة الجامعة ونحو خمسة عقود على تأسيس المجلس، بما يؤكد ان مستقبلهما اصبح من الماضي مستنزفاً كل الوعود والأحلام بغدٍ عربي مشرق أصبح ليلاً حالكاً مليئاً برائحة التآمر والتخلف. هذا على الرغم من مئات الاجتماعات وآلاف اللقاءات واللجان وحفلات الكوكتيل ونفقات التنقل والسفر واكلاف الموظفين والفنادق والهدايا والمكرمات. وها هما اليوم يقفان عاجزين امام الكورونا بشكل يبدوان وحيدين لا علاقة لهما بحركة التاريخ.
ولم يتمكنا في السابق من دعم فلسطين التي التهمتها «اسرائيل» بالكامل بمواكبة ارتفاع مستوى التواطؤ العربي مع كيان العدو برعاية من الجامعة العربية ومجلس التعاون معاً.
ويتضح أيضاً غياب أي مشروع اقتصادي مشترك كان من المفترض أن يؤسس لبدايات تطور اقتصادي نوعي. اما سياسياً فانصاعت دول هاتين الآليتين للنفوذ الأميركي بشكل أعمى ونفذت مشاريعه ما استولد صراعات داخلية بين الدول الأعضاء فاقمت من شلل الجامعة والمجلس على السواء.
بأي حال ظهر بوضوح في سياساتهما منذ 1990 ومن خلال تعاملها مع الاجتياح الأميركي للعالم العربي والإسلامي وحالياً في مجابهة جائحة الكورونا انهما لم يتأسسا الا للاستعمال الأميركي فقط الوريث الفعلي للبريطانيين، فكان المطلوب منهما إجهاض أي تقدم عربي او اعمال مشتركة تعيد تموضع هذه الدول في العصر الحالي فنجحا في هذه المهمة الى درجة إبهار المتابعين ويواصلان سياسات السيطرة على كل قرارات المجلس والجامعة فإما أن تكون ضمن الأوامر الأميركية او لا تكون أبداً. وهكذا تخلى العرب عن سورية وتركوها تجابه الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين والإتراك وكل انواع الارهاب والتآمر الخليجي والأردني، وتعاملوا مع جائحة كورونا بأسلوب المستسلم لقدره بترقب الرحمة من السماء والولي الأميركي فيجدون لهم دواء او لقاحاً يمنع عنهم المصير الاسود.
كيف استولى الأميركييون على هاتين المؤسستين وجعلوهما تنتقلان من مستوى الحياد الظاهري الى مرحلة تنفيذ المشروع الأميركي الاسرائيلي بشكل علني؟ استعملوا المحور الخليجي المصري الذي استفاد من الهيمنة القطبية على العالم.
ما جعلتهما تطيحان بسياسة تأمين الإجماع المطلوب لإصدار القرارات في هاتين الآليتين الى سياسة اكثرية الأصوات فتحولتا الى آلية أميركية كاملة تؤدي ادواراً عربية وخليجية واسلامية تعمل على خط ما يريده الجيوبوليتيك الأميركي وتنفذ المقررات التي تريدها المخابرات الأميركية ووزارة الخارجية الأميركية. فبدت السعودية ومصر وقطر والإمارات محور جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الذي يصدر القرارات ويطرد من يشاء ويدعم الموالين.
هذا المحور هو الذي غطى الهجمات الأميركية على إيران وأفغانستان والعراق معلقاً عضوية سورية في جامعة الدول العربية. ومغطياً تدمير ليبيا والاضطرابات في تونس ومصر والسودان والجزائر مستولياً على القرن الأفريقي ومحاولا تدمير اليمن في حرب متواصلة منذ خمس سنوات.
للتوضيح أكثر فإن هذا المحور هو الذي أناط به الأميركيين مهمة اضعاف العالمين العربي والإسلامي بمحاولة اختراع فتنة مذهبية بين السنة والشيعة، فيتبين ان وكالات الاستخبارات الغربية توصلت الى أن إضعاف العرب يهدف الى ضرب القضية الفلسطينية وتشكيل حلف عربي إسرائيلي لسرقة النفط يشكل جزءاً من الجيوبوليتيك الأميركي في مواجهة الصين وروسيا وإيران، ولا يكون الا بالفتنة الشيعية السنية وهي أداة لخلق عدو قومي ديني جديد للعرب وهي إيران بديلاً من «اسرائيل».
هذا ما طبقته جامعة الدول العربية ومعها مجلس التعاون الخليجي.
الا ان ادوار هاتين الآليتين فشلت بسبب الصمود السوري الذي أحبط الاهداف الأميركية بالسيطرة على الدولة السورية وتقسيمها طائفياً وعرقياً وجغرافياً بالاضافة الى الصمود اليمني الأسطوري الذي منع العدوان السعودي الإماراتي من السيطرة على صنعاء متقدما الى خطوط قريبة من عدن على بحر العرب ونجران داخل الحدود السعودية في اعالي صعدة ومحرراً الكثير من أراضي الجنوب والوسط.
هناك ايضا انكشاف لا يقل سوءاً عن سابقاته ويؤكد على السقوط الدراماتيكي التاريخي لجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي.
فأمام جائحة الكورونا، استسلمت الدول العربية لها وعاملتها على أنها قدر لا يمكن مجابهته بسبب تخلفها العلمي.
فلم تصدر أي دولة عربية حتى مجرد بيان عن هذه الجائحة وما فعلته في مجتمعها في مقاومة صحية او اجتماعية.
وباستثناء لبنان الذي تعامل مع هذا الوباء الخبيث بنشاط حكومي بدا فاعلاً في احتواء انتشار الكورونا، وسورية التي استفادت من الحصار التركي والأميركي والبحري عليها الذي منع الانتقال الخارجي للكورونا الى مناطقها الداخلية، فإن الدول العربية سقطت في فخ العجز حتى انها لم تتمكن من معاينة بيئاتها الريفية والصحراوية لنقص في الإمكانات والأجهزة وأدوات التعقيم وغياب البنية الصحية المتخصصة في التعامل مع حالات مماثلة.
امام هذا العجز تجاهل مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول هذا الأمر ولم يسارع الى تأمين تنسيق عربي وخليجي لمكافحة هذه الجائحة، وفيما كانت هاتان الآليتان عنيفتين في الإصرار على تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية بدتا منكسرتين امام جائحة الكورونا ولم تتفتق عبقرياتهما عن اية دعوة او قرار للتنسيق بين المختبرات الطبية لأكثر من عشرين دولة فآثرت التزام سياسة الصمت المشبوه الذي لا يريد إزعاج الأميركيين مخلياً لهم الساح ليبتكروا علاجاً فيسارع العرب الى شرائه بمليارات الدولارات مع الكثير من الشكر والحمد..
يبدو هنا أن الأميركيين يمنعون اي تنسيق إيجابي بين العرب خشية إدراكه المستوى السياسي والتكامل الاقتصادي وهذا ممنوع لضرورات اختراق المصالح الأميركية للمنطقة العربية.
لذلك فإن هاتين المؤسستين ادركتا نهاية العمر الافتراضي لعجزهما عن تحقيق اي إنجاز له علاقة بالوظائف المفترضة لتأسيسهما فلماذا استمرارهما اذاً؟
يبدو أن سورية هي البديل والقادرة على توجيه دعوة للبلدان العربية المتمرّدة على الهيمنة الأميركية لتأسيس آلية عربية جديدة وبوظائف تنسيقية سياسية.