نهاية الأمركة
عبد الحليم قنديل (كاتب مصري)
في اللهجة المصرية العامية الدارجة، يطلق وصف «أمريكاني»على كل شيء زائف، يضلك مظهره عن مخبره، في السياسة والاقتصاد والثقافة والمعاملات اليومية، تماما كما تفعل صناعة هوليوود، وترسانة أفلامها من «الويسترن» إلى «حروب النجوم»، التي تصور الأمريكي، كأنه الأذكي والأقدر والأشجع والأكثر غيرية وخيرية، وتصور أمريكا قوة مطلقة إلهية القدرة، وتصور جناحها الشرقي عند ساحل نيويورك، كأنه باب النجاة وبراح الحرية وأرض الأحلام، وبتمثال امرأة المشعل المنحوت فرنسيا، الذي صنع في الأصل لوضعه عند المدخل الشمالي البور سعيدي لقناة السويس المصرية، ثم ضل طريقه إلى بحر «نيويورك»، التي تحولت اليوم إلى بؤرة وباء كورونا العظمى، وعنوان الدمار الخفي المهلك.
وبصورة دفعت أمريكيا شابا في فيديو منتشر، إلى انتحال صفة مبعوث السيد المسيح، وارتداء مئزره المسدل واسع الأكمام، وبصوت صارخ كشعره الأحمر، على نحو الصورة الشقراء المزيفة غربيا للمسيح الفلسطيني أصلا، ثم راح المتقمص يوبخ نيويورك العاصية للرب، ويحذرها من الفناء النهائي لحضارتها الكافرة، القاتلة للجنين في بطن أمه، ناسيا أن أمريكا قامت أصلا على تزوير صورة المسيح، وقتلت مئات ملايين الهنود الحمر باسم الرب، قبل أن تجعل من «رامبو الأمريكاني» ربا بديلا.
نعم، كان من فضائل جائحة كورونا، رغم مآسيها الصادمة للضمير الإنساني، أن حولت أمريكا إلى ضحيتها الأسلس والأسهل، وأقامت جنازة مشهدية غير مسبوقة لحلم «الأمركة» الزائف، وكشفت حجم وعمق اهتراء مريع في نظام الرعاية الصحية، إلى حد اضطرار أطباء في مستشفى بنيويورك، إلى ارتداء أكياس قمامة على وجوههم، بسبب نقص الإمدادات من الكمامات الطبية والأقنعة الجراحية.
وعقد الرئيس الأمريكي ترامب لمؤتمر صحافي هزلي يومي في البيت الأبيض، يمتد غالبا لأكثر من ساعة، يبدو فيه متخبطا وغارقا في المستنقع، مستعينا بمعاونين، يكيلون له المديح الخجول الخافت، ويبدو منتشيا بما يصوره عبثا كبطولات خارقة، وجهود جبارة في السعي لتوفير كمامات وأجهزة تنفس صناعي، ومن دون أن ينسى امتنانه للصين العدوة، التي تقدم له النجدة، ولروسيا العدوة التي أرسلت طائرة عسكرية ضخمة تحمل شحنة إنقاذ.
وكأن أمريكا صارت دولة مسكينة من العالم الثالث، تستجدي المعونات، وتعاني تواضع وتدهور بنيتها الصحية، وترامب يوجه اتهاماته كالعادة لسابقيه، بصنع الخراب والعجز الطبي، ويتحدث عن مستشفى عسكري عائم أرسله لبحر نيويورك، وكأنه عمل أسطوري غير مسبوق ولا ملحوق، ومن دون نسيان وعودة للأمريكيين بالأيام الصعبة، وبالمزيد من غزو العدو الفيروسي الخفي، الذي حول إنجاز ترامب الاقتصادي إلى أطلال، وحجز لأمريكا وحدها ثلث إجمالي المصابين والضحايا في الدنيا كلها.
وبالطبع، ليس كورونا هو الذي صنع بؤس أمريكا، هو فقط أظهرها مكشوفة للعيان، ولعب دور زهرة عباد الشمس، التي تدور مع حركة الزمن والشمس، وتأخذ لونها من لحظة انعكاس النور، وتفضح حقيقة فوات زمن «الأمركة»، ففي لحظة سطوع الشمس تنزاح الظلال، وتزول الأصباغ، وقد ظهرت «الأمركة» في المحنة عارية، محرومة من خداع ألوان «الماكياج» الهوليوودي، وبدا ترامب ملك البؤس عاريا، عشوائي القرارات، تائها ضائعا في زحام الحوادث، لا تشغل باله سوى فرص إعادة انتخابه رئيسا في نهايات عام كورونا، ومن دون مقدرة لسانية حتى، على ترديد شعاره الأليف عن أمريكا العظيمة العائدة.
فقد تكشف المستور، وبدت قوة أمريكا المعملقة مسخا شائها، ولم يعد بوسع أمريكا أن تدعي قيادة العالم، ولا هدايته إلى بر الأمان وصراط التقدم اللانهائي، وهذا جوهر ما نعنيه بالأمركة، أي افتراض أن دول العالم عربات قطار محتجزة في مخزن خردة، لا تتحرك إلى أمام سوى بالقاطرة الأمريكية، وبشروطها وتكيفاتها، وأن انسلاخ عربة يعني ذهابها إلى الهلاك المحتوم، إن لم يكن بالعقوبات الاقتصادية، فبالحرمان من عطف أمريكا السامي.
وخارج عوالم هوليوود وخيالاتها المصنوعة بإتقان، فلم تكن لفتنة الأمركة كل هذه السطوة، إلا في زمان معاصر عابر جدا، ربما لنحو يزيد قليلا على عشر سنوات، فصلت بين انهيار موسكو الشيوعية المنافسة وغزو أمريكا للعراق، حيث بدت أمريكا في عز تألق أمركتها، وكأنها قطب العالم الوحيد، بدت مرهوبة، خوفا وهلعا من قوتها المتحكمة، ومرغوبة بفتنة أسلوبها في الحياة، من الخطوط الحمر القانية الممتدة على علمها، إلى مطاعم ماكدونالدز ومشروب كوكاكولا، وحروب السماء التكنولوجية عن بعد، وتفوق اختيارها الاقتصادي، الذي بدا كأنه نهاية الإرب وكمال التاريخ، بما حول ذهاب المهاجر إلى أمريكا كأنه انتقال إلى الجنة، أو التواضع بالحلم عند فوات الفرص، وسعي المحرومين لإقامة «أمريكات» صغيرة في أوطانهم الأصلية.
وكان في القصة كلها مفارقة لا تخفى، هي واحدة من صور مكر التاريخ، فقد صعدت أمريكا إلى منصة التتويج، ربما في اللحظة ذاتها، التي كانت تفقد فيها عناصر امتيازها الإمبراطوري، من دون حاجة لتفاصيل وشروح كثيرة، قد يتوه معها طرف الخيط، فقد بدت أمريكا بعدما سميت حرب استقلالها، كأنها قوة قارية فحسب، وبلا نفوذ عالمي شامل، كان محجوزا في ذلك الوقت، لما كانت تسمى «بريطانيا العظمى»، بينما كانت أمريكا تكتفي بنفوذ قاري إلى الجنوب، وتأخذ من جارتها المكسيك بعض المناطق بالغصب، أو بالشراء الإجباري عدا ونقدا، كما حدث في شراء ولاية فلوريدا من إسبانيا مثلا،
وكان المبدأ الحاكم لنفوذ أمريكا وقتها معروفا باسم «مبدأ مونرو»، الذي يعتبر أمريكا الجنوبية اللاتينية حديقة خلفية لواشنطن، فيما لم تلتحق أمريكا بشؤون العالم الأوسع، إلا عند نهايات الحرب الأوروبية الأولى، المسماة بالعالمية، عند أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، وتبني الرئيس الأمريكي وودور ويلسون لحق تقرير مصير المستعمرات، كانت الإمبراطورية البريطانية وشقيقتها الفرنسية الأصغر، تعانيان وقتها من عوارض ضعف اقتصادي ظاهر، قيّد تطور الآلة الحربية، وأرغم المستعمرين الأوروبيين على تقديم تنازلات صورية لحركات التحرير الوطني،
ثم وصل الضعف الاستعماري الأوروبي إلى غايته، مع نهايات الحرب الأوروبية الثانية، المسماة أيضا بالعالمية، وجرى إنهاك أوروبا بحرب التحطيم الشامل والستين مليون قتيل، وهنا زحفت أمريكا إلى دور «أمركة» العالم، أنقذت المستعمرين الأوروبيين من خطر الغزو النازي والاستيلاء السوفييتي، ومع مشروع مارشال، وباتفاق «بريتون وودز»، الذي جعل الدولار بديلا لغطاء العملات الذهبي،
تطلعت واشنطن للاستفادة من إخلاء إمبراطوريات أوروبا الإجباري لمستعمراتها، وكانت هي القوة الأعظم وقتها بمعايير الاقتصاد والسلاح معا، كان الاقتصاد الأمريكي وحده يمثل نصف اقتصاد العالم، وكانت الأسبق قدما في العصر النووي، واستنزفت قوة المعسكر السوفييتي في سباق السلاح والفضاء، وهزمته في حرب باردة طويلة بدون طلقة رصاص، لكن تلك لم تكن نهاية التاريخ، فقد كان العالم يتغير حثيثا، رغم كبوات جرت لحركات ونظم التحرير الوطني، كما جرى في منطقتنا المنكوبة، بينما راحت قوى أخرى تنبعث في عوالم الشرق والجنوب، وجرت عملية اكتساب قوة واسعة، أعادت توزيع توازنات السلاح والاقتصاد، وباتت المعرفة النووية شائعة في عشرات الدول، وصعدت نمور اقتصاد وتكنولوجيا وإبداع إنساني،
كان أخطرها الصعود الصيني الكامل الأوصاف، وبمزايا السلاح والاقتصاد والتكنولوجيا، وقد حقق في نحو أربعة عقود، أكثر مما حققه الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي في خمسة قرون، وسبقه صعود الذين هزموا بتدخل أمريكا في الحرب الثانية، على طريقة ما جرى في ألمانيا واليابان، لكن صعود الصين بالذات، شكل التحدي الأعظم لانفراد القوة الأمريكية بمصائر العالم، وسنده صعود روسيا من جديد في سباق السلاح، وتكوين ما يشبه التحالف الثابت بين بكين وموسكو، بعد فترة الأحادية القطبية الأمريكية قصيرة العمر،
وبما باعد بين واشنطن وهدف «أمركة» العالم، ومد النفوذ الأمريكي الإمبراطوري إلى قرن آخر، فقد تداعت أمارات تحقق نبوءة بول كينيدي المؤرخ الأمريكي من أصل بريطاني، واستنتاجه المبكر نسبيا في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، وتوقعه هبوط منحنى القوة الأمريكية، التي أخفقت في صوغ التوازن الضروري بين البندقية ورغيف الخبز، مع التناقص المطرد لقوة اقتصادها، وجاذبية أسلوبها في العيش، ومن دون أن يعني ذلك بالضرورة زوالا لأمريكا، بل زوال «الأمركة» بالذات، فبوسع أمريكا في تقديرنا أن تظل «قوة عظمى» بين آخرين، لكنها لم تعد أبدا تلك «القوة العظمى» الكاسحة، وبألف ولام التعريف اللغوي والتاريخي.
القدس العربي