مصر.. الخلفيات الاقتصادية للحراك
أحمد فؤاد
في الخامس والعشرين من يناير، قبل ثمانية أعوام، خرج ملايين المصريين إلى الشوارع، منتفضين ضد نظام المخلوع "مبارك"، بأهداف اتفقت عليها الأغلبية الواضحة من المواطنين مع كل القوى السياسية الموجودة على الساحة - الفاعلة وقتها - وهي "عيش حرية عدالة اجتماعية"، وكانت أغلبية المطالب اقتصادية كما يظهر، فذهب مبارك، وتغير نظام الحكم أربع مرات، من المجلس العسكري إلى محمد مرسي ثم عدلي منصور وأخيرًا السيسي.
من جديد تعود الجماهير إلى الشوارع، يدفعها وضع اقتصادي سيئ، بشهادة الأرقام عن كونها أصبحت أكثر ترويعًا، خصوصًا للطبقات المسحوقة، والتي تدفع أثمانًا مضاعفة لفشل خيارات النظام الحاكم، ثم أثمانًا أفظع لسيطرة الاحتكارات على السوق، كما تسيطر على السياسة بالضبط.
الأمر يستوجب وقفة، تقرأ وتفهم، السبب الرئيس وراء تحدي الناس للقبضة الأمنية الغاشمة، والتي أنتجت - حتى اللحظة فقط - عدة مئات من المعتقلين، أغلبهم لا تُعرف أماكن احتجازهم، ولا يداخل أحد شك في سوء المعاملة التي يتلقونها، ورغم تحول ميدان التحرير، رمز ثورة يناير، إلى ثكنة عسكرية، فإن الجماهير تمكنت من اقتحامه، للمرة الأولى خلال حكم "السيسي"، ما يؤشر على مستوى غضب متصاعد، يزيد في مدن الأطراف، حد تحوله إلى مواجهات واسعة، واستخدام الشرطة للسلاح في محاولة للسيطرة على الأوضاع، بالسويس خصوصًا، والتي كانت -للمفارقة- أيقونة يناير وأول مدينة خرجت عن سيطرة نظام المخلوع "مبارك".
مصر: ارتفاع هائل في مستوى الأسعار، انتشار الفقر بشكل واسع، تضخم غير مسبوق، بطالة، انهيار المداخيل الحقيقية، صعوبات شديدة في توفير مقومات الحياة
الدولة المصرية تحكم مواطنيها طبقًا لما يمكن تسميته "عقدًا اجتماعيًا"، توفر الحد الأدنى من مقومات الحياة، من السلع الغذائية المدعمة، إلى المستشفيات، وصولًا للأدوية رخيصة الثمن، ثم تضمن توفير المعاشات لمستحقيها في مواعيدها، وبالتالي فإن الأغلبية الواضحة من المصريين شعروا بكفالة الدولة، طوال العقود الماضية، التي تلت ثورة يوليو 1952، وكانت كلمة المواطن محدود الدخل تعني مباشرة الشخص صاحب الحق بالرعاية من الحكومات المتعاقبة.
ببساطة ووضوح شديدين، الدولة صاغت معادلة للحكم، وارتضاها الناس، وغضوا الطرف عما عداها، من سياسات خارجية إلى شكل الحكم القائم، وهو ما يفسر تمكن نظام مبارك من الحكم لثلاثين عامًا، بل والطمع بتوريث الحكم لنجله.
لكن الدولة قررت كسر هذا العقد الاجتماعي، فجأة، وبدون سابق إنذار، تحت لافتة إصلاح اقتصادي مزعوم، ومدعوم من مؤسسات السيطرة الدولية الأقذر، صندوق النقد والبنك الدوليين، والنتيجة المباشرة للمسيرة كانت: ارتفاع هائل في مستوى الأسعار، انتشار الفقر بشكل واسع، تضخم غير مسبوق، بطالة، انهيار المداخيل الحقيقية، صعوبات شديدة في توفير مقومات الحياة ذاتها بالنسبة لشريحة معتبرة من السكان، ما ولد الإحساس بالعجز عن المضي إلى المستقبل بنفس الشروط، وكان الدافع الأول للخروج، بعيدًا عن نظريات المؤامرة التي يدعمها أنصار النظام والمستفيدون من وجوده.
التغير الأساس، الدافع للرفض والغضب، تمثل في هروب الدولة من التزاماتها، مع الاستمرار في التشديد على حصد التزامات الطرف الآخر -الشعب - وهو ما خلق تناقضًا صارخًا، أصبح مع الوقت سياسة حكومية ثابتة، ولدى الناس صار ضربًا من ضروب الجنون.
الضربة الحاسمة للأغلبية من المصريين، كانت قرار تعويم الجنيه المصري، وهو ما أدى لموجات غلاء لا تتوقف، ومع تحويل الهيئات الحكومية الخدمية إلى شركات مساهمة، ورفع لافتة الربح - دون تقديم خدمات موازية للأرباح - فقد تضاعفت المصاعب على الناس، ومع إعادة تسعير خدمات الكهرباء والمياه واستخراج الأوراق الحكومية، فقد استباحت الدولة سرقة المواطن، باختصار سعت الدولة القائمة إلى الحصول على ما في جيوب الناس، دون تقديم أي مقابل لهم، فلا صحة ولا تعليم، والخدمات بالأسعار العالمية، فيما المرتبات والمعاشات لا تعرف العالمية هي الأخرى.
في هذا الإطار، يمكن قراءة تقرير البنك الدولي، بعنوان "مرصد الاقتصاد المصري تموز/يوليو 2019"، والذي يقول إن "الوفر من الإصلاح المالي لم ينعكس بأي شكل على قطاعات الصحة والتعليم"، وهي قطاعات تدخل ضمن واجبات الدولة بكل تأكيد. وذكر التقرير أن مخصصات الرعاية الصحية والتعليم انخفضت في الموازنة بالقيمة الحقيقية، إذ تراجع الإنفاق على التعليم من 3.6% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في 2016 إلى 2.5% في 2018، ومقرر له 2.2% في الموازنة الحالية 2019-2020، وأشار إلى أن مخصصات الصحة في الموازنة أيضا تراجعت، إذ بلغ الإنفاق عليها 1.6% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في 2018، بينما تحصل الحكومة على 87% من إيراداتها من جيوب الناس كضرائب.
مع السياسات الحكومية المتبعة، كان منطقيًا نزوح ملايين المصريين إلى ما دون خط الفقر. البنك الدولي أكد وصول 60% من المصريين إلى منطقة الفقر وشدة الحاجة، بينما قال الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إن 32.5% من المصريين باتوا تحت خط الفقر، مع العلم أن الجهاز الحكومي يعتمد رقمًا لتحديد خط الفقر أقل من الرقم العالمي (1.5 دولار للمواطن يوميًا مقابل معدل عالمي 1.9 دولار)، بالإضافة إلى دخول 6.5% من السكان (أكثر من 6 ملايين مواطن) في شريحة الفقر المدقع، ووفقًا لتعريف الجهاز ذاته، فإن الفقر المدقع هو العجز عن ضمان الحد الأدنى من الطعام اللازم للبقاء على قيد الحياة!
وبجانب المشهد شديد السوداوية والكآبة، فإن عام التعويم (2016-2017) شهد زيادة ثروات أغنى رجال الأعمال المصريين، وفقًا لتقرير مجلة "فوربس" الاقتصادية المرموقة، ما يعني أن الأعباء تتركز في طرف واحد، بينما تسمح حالة الاحتكار المسيطرة بمضاعفة الأرباح ومراكمتها، على حساب ملايين المواطنين.
الخروج الشعبي، الأول ضد السيسي، ينبغي اعتباره جرس إنذار، صوتاً صارخاً يحذر من استكمال المسيرة تحت راية صندوق النقد الدولي، والذي يسميه المصريون - بوعي حقيقي - صندوق "النكد" الدولي، فهل تصل الرسالة، وتعيد الدولة ترتيب أولوياتها، وتحرص على إغلاق بوابة الغضب الهادرة، قبل أن يفوت الأوان، وتشهد الدماء على فصل جديد، خلال الأيام الصعبة المقبلة؟