ماذا يحدث في مصر؟
إيهاب شوقي
ما يحدث في مصر هو أكبر من كونه صراع سياسي بين أطراف سياسية متجاذبة، وأعمق كثيراً من كونه أزمة اقتصادية واجتماعية ولدّت أوضاعاً ثورية تشكل ظرفاً موضوعياً يفتقد ظرفاً ذاتياً وتنظيماً يقود الثورة، وينذر بالفوضى والفراغ.
الواقع ان مصر بحكم موقعها ودورها تعيش وضعاً من عدم الاتزان مصدره التجاذب بين أطراف تشدها للعب أدوار مخالفة لطبيعتها، وتشبث أطراف أخرى بثباتها في موضعها الطبيعي واللائق والمتسق مع دورها.
وبين هذا وذاك تكاد تتمزق أضلعها، الا ان صلابة هذه الأضلع تحول دون ذلك ولكن لا تحول دون التأرجح والذي يصل حد الزلزلة في اوقات كثيرة.
ليس المجال هنا هو الحكم على اطراف وادانة ممارسات ومحاكمة سياسات، وانما المجال هنا هو توصيف للوضع الراهن والذي يعد محصلة لاخطاء متراكمة يمكن رصد اغلبيتها الساحقة منذ تخلي مصر الرسمية عن دورها المقاوم والمنتمي لمحور تحرري مناهض للاستعمار، وما اعقب ذلك من انتقال رأس مصر لمحور مخالف مع بقاء جسدها في محوره القديم.
هذا الوضع جعل جسد مصر الذي تربى وترعرع وتشكلت مكوناته من عناصر مقاومة، يتلقى من الرأس الجديدة اشارات واوامر تلائم مكونات اخرى، مما جعل الجسد بحكم قانون التكيف، يتحايل على طبيعته ليلائم هذه الاشارات الغريبة، وهو ما ولد اوضاعا جديدة، ليست اصيلة به، وانما هي منتوج لهذا التحايل والتكيف!
ويمكن هنا رصد يعض من هذه الاوضاع:
1ـ الرفض الشعبي المصري للتطبيع مع العدو الصهيوني رغم التطبيع الرسمي ورغم ممارسات وتصريحات سلطات متعاقبة عن سلام مزعوم، وهو ما ولد انفصالا بين الجسد الشعبي والرأس الحاكمة، ويمر هذا الانفصال بمراحل مختلفة تتراوح بين الحدة والاشتباك احيانا، وبين السكون والصبر احيانا، الا انه جرح لم يندمل يظل مفتوحا ونازفا وبشكل فجوة ربما لا تكون معلنة بين الشعب واي رئيس يلتزم بهذا الخيار، ولكنها تظهر عند احداث مفصلية وان كمنت في بعض الفترات.
2ـ مسؤولية الدولة الاجتماعية في قطاعات التعليم والصحة والمواصلات والتي كرسها جمال عبد الناصر عبر مبادئ اشتراكية، جعلت ذلك حقا مكتسبا للشعب، ومع اتخاذ الانظمة التي تلت عبد الناصر لخيارات اخرى وتوجهات اقتصادية مختلفة، لم تستطع الحكومات التحلل من هذا الارث، وبدا كل خروج لها عن مكتسبات عبد الناصر الشعبية يشكل تآكلا في شعبية وشرعية الانظمة، وتتسع الفجوة بين الشعب والنظام بمقدار الخروج عن الخط الاقتصادي والاجتماعي الناصري.
3ـ القضية الفلسطينية هي قضية مصرية بامتياز، والتربية الوجدانية المصرية قامت على أسس العداء للصهاينة وعمقت الحروب المصرية الاسرائيلية هذا العداء كما عمقت الارتباط بفلسطين، ومع التراجع التدريجي الرسمي في العداء والتخلي على ثوابت القضية، وما تلاه من تآكل في العمل العربي والذي وصل اخيرا كتطور طبيعي الى التناقض مع المقاومة وإدانتها، ولد ذلك ارتباكا شعبيا ابسط مظاهره وتداعياته كان السلبية في التعاطي مع العدوان وكأنه عمل روتيني، وانعكس ذلك ايضا على الشعور بالانتماء القومي، وهو ما يقود حتما لضعف الانتماء الوطني واللا مبالاة وهو مؤشر ينبغي تداركه، لانه يفقد الشعب مناعته في فرز الغث من الثمين والحق من الباطل، ولا يجعل عليه لوما اذا ما انساق او انخدع بأية مؤامرات ان وجدت.
هذه العوامل الكامنة ولدت صراعا داخل الشعوب وتحديدا لدى الشعب المصري، واذا ما اضيف لها استهداف الشعب بثقافة تضليلية تشوه تاريخه المضئ المتمثل في فترة التحرر الوطني، وتحاول زرع ثقافة مغايرة سواء اقتصادية او سياسية، وحتى دينية متناقضة مع تصوفه الفطري، فإننا امام طاقة كبرى تريد التحرر والعودة للطبيعة ولكنها تفتقد الالية والطريق.
وهذا البركان المصري الخامد دوما في حالة بحث عن فوهة، وقد خرج الغضب اكثر من مرة توسما لطريق العودة، ولكن الطريق تم قطعه وتحويله لطرق مضللة ليكتشف انه في متاهة تعيده للطريق الخاطئ مرة اخرى!
ربما يصمت المصريون ولكنه صمت استراحة المحارب، وصمت الحذر من قاطعي الطرق، ولكن رحلة البحث عن العودة تظل متوالية.
هذا بشكل عام اجتهاد في توصيف حالة عامة، وبخصوص اللحظة الراهنة، فإنها لحظة بحث جديدة عن العودة، تنتظر شرارة، ولا تنظر لتقييم هذه الشرارة ومصدرها والحكم عليها وعلى نواياها وخلفياتها، وهي حالة انفجار لا تحدث الا عند وصول الضغط لأقصاه.
وما يهمنا هنا حتى تعبر مصر بسلام من هذه اللحظة هو وضع هذه الحقائق في الاعتبار:
1ـ الفصل بين ما هو خلافي وبين ما لا يجب الخلاف عليه، وبشكل أوضح، الفصل بين الرئيس والذي هو كأي رئيس له مؤيدون ومعارضون ويكون موضعا للخلاف والجدل، وبين الجيش والذي يجب ان يكون موضع اجماع شعبي، وهذا الفصل هو واجب على جميع الاطراف، فهو واجب على السلطة ان تفصل نفسها عن الجيش ولا تحمله تبعات الخيارات السياسية الخلافية، وواجب على المعارضة ان تحترم الجيش وتحرص حتى في نقدها المشروع على احترامه المستحق.
2ـ من حق الشعب ان يعبر عن رأيه وغضبه ولكن عليه ان يتحلى بالمسؤولية الوطنية وينبل الوسائل التي تتسق مع نبل الاهداف، كما يجب عليه ان يبلور اهدافه لتتجاوز نطاق ما يرفض الى نطاق ما يريد.
3ـ اغلاق المجال على فكر واحد والسماح بسيطرة الخليج الفارسي على مفاصل الاعلام والسياسة وما يترتب عليه من تناقض مع الوجدان الجمعي للشعب هو بمثابة استعداء للشعب ودفعه لطرق ومنافذ اخرى للبحث عن ضالته، ليجد في هذه المنافذ الغث مخلوطا بالثمين والسم ممزوجا بالعسل.
ان تراكمات العقود الماضية منذ وفاة جمال عبد الناصر خلقت طبقات من المرتزقة والمنتفعين، كما اضعفت المناعة الداخلية وفرقت الصفوف ولكن سنوات التحرر وارث المقاومة شكل حائلا طوال الوقت يحول دون الانهيار، وشكل سقفا مانعا للسلطات، ربما ينذر تجاوزه بنهاية هذه النظم، ولا شك ان قطع العلاقات مع سوريا بينما هي موجودة مع العدو الاسرائيلي، او التمادي في التحالف مع الرجعية العربية على حساب القضايا المركزية وعلى حساب ثقافة المقاومة الراسخة في وجدان الشعب، والتمادي في الخضوع للغرب وشروطه، هي من النذر التي ينبغي لاي نظام ان يضعها في اعتباره.