انتبهوا: تغيّرت قواعد الحرب وليس قواعد الاشتباك!
ناصر قنديل
وحدَه السيد حسن نصر الله كان يعلم ماذا يفعل بوضع تصنيف عملية الردّ التي قررتها المقاومة على الغارة التي سقط فيها شهيدان للمقاومة في سورية، ضمن إطار العودة لقواعد الاشتباك المعمول بها منذ العام 2006، ومنع المحاولة الإسرائيلية لتغيير قواعد الاشتباك، والردّ الذي نفذته المقاومة جاء بفعل هذا التوصيف تحت غطاء وطني مثله بيان مجلس الدفاع الأعلى وتأكيده حق اللبنانيين بالدفاع بكل الوسائل. وبفعل هذا التوصيف كانت المتابعات التي رافقت العملية تائهة في علوم الحرب، بين عقول سياسية وعسكرية تقليدية قرأت العملية الجديدة للمقاومة كردّ موضعي مدروس بحساب عدم تصعيد الوضع ويشكّل رسالة رد على تمادي جيش الاحتلال، ترافق مع عدم وجود رغبة دولية وأميركية خصوصاً بالتصعيد، ما جعل كيان الاحتلال يحتوي العملية ويمتنع عن الذهاب لرد يؤدي للتصعيد، خصوصاً أنه على أبواب انتخابات لا تحتمل المخاطرة بتصعيد قد يؤدي للانزلاق للحرب.
محبّو المقاومة من أصحاب العقول التقليدية وضعوا نهاية الجولة برد رفع عتب من جيش الاحتلال وما رافقه من كذب بشأن وقوع الإصابات، في إطار حرص المقاومة بعدم توجيه ردّ يُحرج جيش الاحتلال ويكفي لتحقيق الهدف بتثبيت قواعد الاشتباك، وكارهوها ولو أظهر بعضهم خلاف ذلك تحدّثوا عن رد ورد على الرد متفق عليهما، بقنوات اتصال غير مباشرة، بعضهم قال روسية وبعض آخر قال فرنسية، لمنع التصعيد. فهل هذه هي الصورة الحقيقية لما جرى يوم الأحد في الأول من أيلول 2019 الذي صار يوماً تاريخياً؟
المقاومة تؤكد أنها لم ترد بعد على عملية الطائرتين المسيّرتين اللتين خرقتا سماء الضاحية ومثلتا محاولة جيش الاحتلال لتغيير قواعد الاشتباك، وأن الردّ عملياً محدّد بكلام السيد حسن نصر الله، عن توقيت ونوع التعامل الذي سيجري مع الطائرات المسيَّرة لجيش الاحتلال، باعتبارها منذ تاريخ عملية الضاحية، أكبر من انتهاك للسيادة يترك للدولة التعامل معه في إطار توثيق انتهاكات جيش الاحتلال للقرار 1701، لتصير عملاً عدوانياً سيتعرض للمواجهة، واستهداف ما تيسّر من المسيَّرات ضمن حساب يكفي لجعل حركتها مقيدة ومعقدة، ويحول دون استنزاف المقاومة لمواردها وقدراتها في حرب الطائرات المسيَّرة.
عملياً ردّ المقاومة كان على الغارة التي استهدفت مجاهدي المقاومة في سورية، وحملت اسمي شهيدي الغارة. وهنا نحتاج لبعض الهدوء والتأني في القراءة لنعرف ما جرى، ونضع من خلاله رؤية أي سياق يفتتح، وأي معادلة يرسم. فوجود المقاومة في سورية ينتمي لمرحلة ما بعد معادلات وقواعد اشتباك 2006، وما يحكم التعامل مع هذا الوجود لم ترسم له بعد قواعد اشتباك موضوعية يلتزمها الطرفان، المقاومة والاحتلال. بل هناك محاولات من الاحتلال لجعله هدفاً مشروعاً باعتباره وجوداً خارج لبنان، وسعي من المقاومة لجعل كل اعتداء يؤدي لسقوط شهداء موضوعاً للردّ المشروع. وكانت تجربة ثنائية عملية القنيطرة لجيش الاحتلال عام 2015 والرد عليها في مزارع شبعا عام 2015، النموذج الوحيد لهذه المحاولات، التي لم تتحول إلى قواعد اشتباك.
عملياً رد المقاومة فرض هذه المعادلة لحماية دماء مجاهديها في سورية وأي مكان في لبنان وخارجه، والآن صار اسمها قواعد اشتباك أضيفت لما سبقها الذي كان ميدانه الجغرافيا اللبنانية حصراً. فالردّ هنا فرض لقواعد اشتباك جديدة من جانب المقاومة وليس تثبيتاً لقواعد الاشتباك القديمة، لكن الرد يبدو أكبر من ذلك بكثير، بحيث يصير من السذاجة تصديق مجرد التفكير باعتباره محدوداً وموضعياً ومدروساً. فكيف بالقول إنه متفق عليه؟ فنحن أمام أول عملية تستهدف جيش الاحتلال داخل جغرافيا فلسطين المحتلة عام 1948، من حدود دولة جوار عربي، ينتهي دون رد إسرائيلي بحجم ما يمثل، فيما العمل العسكري لجيش الاحتلال موضوع الردّ كان على وجود المقاومة خارج لبنان. وهو وجود لا يحظى بتغطية دولية تشرعنه، واستهدافه من جيش الاحتلال يحظى بالتفهم الدولي، وبالمقابل رد المقاومة يعتبر عدواناً على ما يعتبره المجتمع الدولي أرضاً إسرائيلية وليس أرضاً لبنانية محتلة، أو متنازعاً عليها، أو أرضاً عربية محتلة كالجولان أو الضفة الغربية، وهذا يعني ببساطة أن وجود المقاومة خارج لبنان بات محمياً بخط أحمر، وأن مواقع الاحتلال داخل فلسطين الـ 48 لم تعد خطاً أحمر.
ردّ المقاومة وما تلاه يقولان شيئاً جديداً كلياً، عبّرت عنه الخارجية الأميركية بما يشبه إعلان الخيبة من تهرّب جيش الاحتلال من الردّ، ومن يقرأه يظن أن الأمور ذاهبة إلى جولة تصعيد، بما تضمنه من تغطية لما وصفه بالحق المشروع لإسرائيل بالدفاع عن نفسها ، ولغة عصبية في الحديث عن تحميل حزب الله مسؤولية التصعيد وزعزعة الاستقرار في لبنان والمنطقة، والاستقرار لم يتزعزع ولا من يزعزعون. وقد مسح الاحتلال بجلده الإهانة وكذب بشأن إصابته لتفادي التصعيد، وجاء البيان الفرنسي مليئاً بالمعاني أيضاً بالتأكيد على الوقوف على مسافة واحدة من طرفين هما المقاومة و إسرائيل . وهو يباهي باتصالاته بكل منهما لمنع التصعيد. وهو يعلم أن أحدهما تعرّض للاستهداف خارج حدوده ، أي المقاومة، والثاني تعرض للاستهداف داخل حدوده ، أي كيان الاحتلال، وأن أحدهما دولة تقيم أفضل العلاقات مع فرنسا، والثاني حركة سياسية عسكرية تصنِّف فرنسا جناحها العسكري المعني بالرد على لوائح الإرهاب.
الذين كانوا في لبنان ينتظرون رد المقاومة ويفركون كفوفهم بانتظار الرد الإسرائيلي على الردّ أصابهم الإحباط، فقد سقطت نظرياتهم عن تعريض المقاومة لبنان لخطر حرب. ونعيق البوم والغربان عن الخراب والدمار ذهب هباء. فقد خذلتهم إسرائيل ، ولم يجدوا إلا الحديث عن حزنهم على غياب الدولة، أو عن قبول مسبق من جانب إسرائيل لصفعة وجودية تاريخية، اخترعوا له وجود تفاهم ضمني أميركي إيراني موهوم لضبط الردّ والردّ على الردّ.
ردّ المقاومة نصف حرب وليس عملاً موضعياً ولا يصلح ليكون رداً متفقاً عليه مع أي كان، فكيف مع الاحتلال المصاب في كبده اليوم، ليصير الردع الذي يحكم معادلة المقاومة والاحتلال، وقد ترسمل بقواعد جديدة بمدى ونوع أعمق بكثير من أن تفسره الانتخابات، أو حسابات نتنياهو، بل حدود قدرة الكيان سياسياً وعسكرياً وشعبياً على تحمّل اختبارات الحرب، الكيان الذي قدّم لنا السيد الإثبات أنه أوهن من أوهن من أوهن من بيت العنكبوت، وها هي إسرائيل المصابة في روحها أمام أعيننا، والأعمى وحده لا يريد أن يرى.
وحدَه السيد يعرف ماذا فعل، فقد غيّر قواعد الحرب وهو يتحدث عن منع العدو من تغيير قواعد الاشتباك، وما جرى سيغير معادلات حركة جيش الاحتلال في سورية والعراق وفلسطين، وكما كل مرة المقاومة تسجل السابقة وتفتح الطريق لتصير قانون حرب.