لبنان والوصاية الأميركية
غالب قنديل
استند تبرير الرضوخ للشروط والطلبات بل الأوامر الأميركية داخل الشريحة الحاكمة في لبنان إلى معالم الهيمنة الأميركية الأحادية في العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ولذلك ما تزال عالقة في لغة هذا الفريق مفردات انتهى زمانها أو اقترب من النهاية مع تبلور وقائع جديدة في العالم تثير الدهشة والصدمة لمن أدمنوا في بيروت تسقط الإشارات من السفارة في عوكر أو من جولات الموفدين على مراكز القرار في واشنطن وباتوا يتساءلون ببلاهة وانشداه عن التبدلات التي بالكاد يعترفون بها.
تستمر الوصاية الأميركية على الدولة اللبنانية قوة قاهرة رغم الازدواج السياسي في تكوين السلطتين التنفيذية والتشريعية من خلال المساكنة بين المحورين ورغم ما ينسب إلى حزب الله وتحالفاته السياسية من قدرة على الحسم والتحكم باللعبة المحلية منذ انتخاب العماد ميشال عون والانتخابات النيابية الأخيرة.
بلغة الوقائع يتضح أن معالم تلك الوصاية النافرة تتجسد بخضوع النظام المالي والمصرفي للعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على بعض الأفراد والمؤسسات في لبنان تحت يافطة الحد من نفوذ حزب الله وهي في حقيقتها استجابة أميركية لطلبات صهيونية تصاعدت منذ التحرير في العام 2000 عقابا للحزب ولمؤسساته ولجمهوره ومسانديه على دورهم في بناء مقاومة تذل العنجهية الصهيونية وتنهي زمانها العربي وفي بناء معادلات الحماية والدفاع ضد العدوان الصهيوني المستمر.
كذلك تعاقب المقاومة اليوم على نجاحها في التصدي مع الجيشين اللبناني والسوري لخطر التهديد التكفيري الذي دعمته الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة وسعت لجعل لبنان منصة لاستعماله في تدمير سورية ولنسف ركيزة محور المقاومة في المنطقة.
لايكفي أن يقر بعض المسؤولين بتلك العقوبات كقوة قاهرة منافية للسيادة بل ينبغي التفكير بكيفية التصدي لها كعدوان على البلد وهذا يتطلب دراسة متأنية لخيارات بديلة عن الارتهان للهيمنة الأميركية والامتثال لعقوبات يعرف المعنيون انها مصممة لنسف الاستقرار ولتخريب الاقتصاد بينما يمكن التصدي لها وفق ما تقدمه تجارب الدول التي تواجه العقوبات الأميركية المالية والمصرفية بدلا من الخضوع والتكيف الكلي ولكن الخطير في لبنان هو إغلاق جميع الأبواب امام النقاش في البدائل المتاحة التي تختبرها دول عديدة في العالم ولكن يجري عندنا سد طرق النقاش النظري في تلك البدائل ولو عبر تنويع الخيارات الاقتصادية والمالية على صعيد العلاقة بالخارج بدلا من حصرية الارتباط بالغرب تماما مثل رفض فكرة تنويع مصادر سلاح الجيش.
باختيار النظام اللبناني يتم إخضاع الجيش اللبناني لآلية تحكم أميركية في التسليح والتدريب والتدخل في العقيدة الدفاعية تحت يافطة التنسيق مع القيادة المركزية للقوات الأميركية في ما يسمى بالشرق الكبير او المنطقة الوسطى حسب مصطلحات البنتاغون.
هذا الخضوع السياسي يترسخ بدلا من اغتنام فرص تنويع السلاح واستثمار التحولات المستجدة في البيئة الدولية والإقليمية وخصوصا في سورية حيث باتت القوات الروسية على الأرض وفي البحر وفي الجو هي الجارة الأقرب إلى لبنان وتتيح العلاقة معها فرصا جدية لتطوير القدرات الدفاعية اللبنانية في وجه التهديد الصهيوني الدائم.
ظلت بلا أجوبة جميع التساؤلات الخجولة عن الحكمة في الخضوع للوصاية الأميركية برفض الهبات الدفاعية التي عرضت على الجيش اللبناني من إيران روسيا وحول عدم التعاون مع الصين ماليا بل إدارة الظهر لهذه القوة العالمية العظمى بقدراتها الهائلة بدلا من التطلع إلى تأسيس شراكة لبنانية صينية لوضع استراتيجية تحتوي تدريجيا الديون المتراكمة وتؤسس لقيام هياكل اقتصادية منتجة ولنقل التكنولوجيا المتقدمة بينما يؤثر المسؤولون اللبنانيون بدلا من ذلك متابعة العمل من خلال مؤتمرات الدائنين وتسول القروض من دول الغرب والخليج تعبيرا عن إخلاص النخبة السياسية والمصرفية لارتهانها الأحادي إلى منظومة الهيمنة التي تقودها الولايات المتحدة.
يتحكم الحرص على مراعاة الضوابط الأميركية وتحاشي الممنوعات في كل شاردة وواردة وبالذات في إيقاع الموقف من سورية والعلاقة بها ويعبر السلوك الرسمي اللبناني عن ازدواجية خطيرة بحيث تتجاور العدائية المستفزة مع الإقرار بواقع الانتصار السوري وجبرية التعاون الإقليمي استجابة لمصالح لبنانية وجودية وحيوية ومن الواضح أن بعض الساسة يقدمون فروض الولاء لواشنطن والرياض بإدارة الظهر لسورية وبعضهم يستدرج عروضا ويمد حبال الود اليهما بالرقص على حبل مشدود في الموقف من سورية بتعبيرات متناقضة تعكس حرصا على مسايرة رغبات الوصي الأميركي.
على الرغم من الإشارات الواضحة والمتجددة لهذه العيوب التي تنم عن خضوع وامتثال للوصاية الأميركية يتمادى المرتبطون بالخارج في الترويج سياسيا وإعلاميا لحملاتهم ضد المقاومة وسورية وإيران ويظهرون نسبة عالية من الخبث والتحايل إزاء العلاقة بروسيا والصين.
يتخيل رافعو شعارات التغيير السياسي ان التصدي للنظام القائم تحت شعارات من نوع مجابهة الطائفية ومحاربة الفساد هوالسبيل لحل معضلات المجتمع اللبناني ولكن الحقيقة التي تفيض بها التجارب هي أن تلك الأهداف التقدمية السامية ترتبط بالحلقة المركزية في أي تغيير سياسي واقتصادي مفترض وهي التحرر من الوصاية الأميركية فهذه الوصاية تدير استنزاف المقاومة بأيد لبنانية وتقود إضعاف المناعة اللبنانية ضد العدو الصهيوني وهذه الوصاية تفرض استمرار النظام الريعي الفاسد وتحمي هيمنة قواه وأركانه بوصفه ركيزة نفوذها الحاسمة وهذه الوصاية تسد الطرق في وجه مصالح لبنان الكبيرة والواعدة بالانفتاح على تحولات الشرق الصاعد من بوابة تأسيس شراكة سياسية واقتصادية مع سورية والعراق وإيران وروسيا والصين والهند وهي الوصاية نفسها المسؤولة عن تصعيد التوترات الداخلية في المجتمع اللبناني لاستعمال لبنان منصة لخطط الولايات المتحدة ومشاريعها ضد محور المقاومة والاستقلال في المنطقة.
بدون إسقاط الوصاية الأميركية لا سيادة ولا استقلال ولا تنمية ولا عدالة ولا نهوض فعليا لدور لبنان الحضاري في جميع المجالات ولا نهاية لحلقة النزيف الاجتماعي والاقتصادي التي يشكو منها اللبنانيون.