إيران تخطّت العقوبات: فشل أميركي.. وهزيمة للمراهنين
محمد علي جعفر
وسط التحولات التي تعيشها المنطقة والعالم، وبينما تغرق الدول الغربية بمشكلاتها الداخلية وتراجع قدرتها على إدارة الملفات المتعلقة بالمنطقة، يعيش حلفاء الدول الأوروبية والولايات المتحدة حالة من التخبُّط مُستلهمين القدرة على الصمود من خلال بناء الآمال ليس أكثر.
واقعٌ يتصف به المراهنون على سياسات أمريكا وأوروبا، تغيب عنه الواقعية في مقاربة القضايا الراهنة. كيف إذا أخذنا بالإعتبار أن الغرب لم يعد طرفاً واحداً، بل هو لم يكن يوماً كذلك. لكن الواقع المُعقد الذي بات يحكم العالم، وتناقض الحسابات وتعارض المصالح بين الأطراف، لم يفضح فقط حجم الإختلافات العميقة بين كل من أوروبا وأمريكا بل بيّن أيضاً حجم الإختلافات الداخلية في كل من أمريكا وأوروبا. ألقت هذه الإختلافات بظلالها على واقع ما يُسمى حلفاء الغرب في المنطقة. وانعكست الإصطفافات الداخلية الجديدة في الولايات المتحدة تحديداً (الخلافات العميقة بين الأطراف الأمريكية المتصارعة) بتأثيراتها على الواقع السياسي لحلفاء واشنطن.
يُفسر هذا الواقع سبب فشل الرهانات الأميركية في الحرب على إيران وحلفائها. منذ وصول دونالد ترامب الى الرئاسة في كانون الثاني 2017، بنت واشنطن استراتيجيتها لكسر التعاظم الإيراني، على أمرين اثنين عبَّرت عنها كل من استراتيجية "أولبرايت هادلي" واستراتيجية "الأمن القومي الأمريكي":
أولاً: تأمين القدرة على تشكيل جبهة موحدة ضد ايران من خلال دفع الدول الأوروبية للرضوخ للتوجه الأمريكي مع تأمين دورٍ عملي تلعبه بالتعاون والتنسيق كل من السعودية والكيان الإسرائيلي بشكل أساسي.
ثانياً: التحوَّل نحو الحرب المباشرة على إيران، عبر الرهان على خرق منظومة الأمن القومي الإيراني وتهديد المصالح الإيرانية من الداخل.
فيما يخص الرهان الأول، لم تنجح هذه الأطراف في تحقيق الأهداف. كانت النتائج الإستراتيجية للتحولات في كل من الحرب السورية واليمنية والعراقية والتي جاءت بأسرها لصالح محور المقاومة، أقوى. فيما أدى ارتفاع منسوب التحديات الداخلية في كل من أوروبا وأمريكا الى ضرب الموقف الغربي الموحد، ودفعت توجهات الإدارة الامريكية المتشددة الدول الأوروبية في إعادة النظر في مصالحها الإستراتيجية مع واشنطن، في ظل جموحٍ أمريكي لا يُراعي مصالح الحلفاء الغربيين، ليخرج الى العلن الخلاف الأوروبي الأمريكي ما انعكس بالنتيجة على حلفاء الغرب في المنطقة. نماذج كثيرة وأزمات عدة دلت على ذلك (مثل الأزمة القطرية السعودية، التركية السعودية والأردنية السعودية ..). لم تكن النتائج مُخيبة فقط، بل كانت عكسية. إيران وحلفاؤها أقوى وبحسب معايير القوة كافة.
أخطأت واشنطن في الإعتقاد بأن خرق الداخل الإيراني مشابه لخرق داخل الدول العربية
فيما يخص الرهان الثاني، يمكن القول أن واشنطن غامرت وبشكل كبير في لعبتها المباشرة. قد يجد البعض الكثير من التبريرات للسلوك الأمريكي واتخاذه خيار الحرب المباشرة. لكن هذا الخيار بالمفهوم الإستراتيجي يعني ضرورة النجاح في الرهان، لأن كلفة الهزيمة ستكون كبيرة. وهو ما باتت تُثبته النتائج المتلاحقة. فكيف فشل الرهان؟ وما هو الثمن الذي ستدفعه واشنطن؟
أولاً: أخطأت واشنطن في ممارستها الإعتقاد بأن خرق الداخل الإيراني مشابه لخرق داخل الدول العربية. لم تتعلم واشنطن من دروس التاريخ، حيث تطغى الثقافة والحضارة على سلوك وردَّات فعل الشعب الإيراني. لم يُفلح الرهان الأمريكي في تأجيج الإصطفافات الداخلية بل ساهمت سياسة الخداع الأمريكي في تعزيز موقف البعض في ايران والمؤمن بعدم ضرورة التفاوض. ليصطف الجميع سياسياً حول هذا الخيار. إقتصادياً جاءت العقوبات لتُعزز التوجه الإيراني لبناء القدرة الذاتية. توجهت إيران في مقاومتها للعقوبات، الى تعزيز أساليب إدارة الأزمة تحديداً على الصعيدين الإجتماعي والإقتصادي من جهة، وركزت على سياسات الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد. ساهمت العقوبات في دفع عجلة التطوير الداخلي!
ثانياً: أخطأت واشنطن في انتقالها لتهديد إيران بشكل مباشر. دفع هذا التهديد إيران الى ردة فعل طبيعية لكن شرسة عبر رفع سقف المواجهة، فمارست طهران حرباً إعلامية ونفسية مبنية على قدرات واقعية وحسابات دقيقة. من التهديد بإغلاق مضيق هرمز الى اللعب بالعديد من الأوراق الإقليمية وصولاً الى التوجه نحو الشرق (روسيا والصين) والسعي لبناء حلفٍ اقتصادي. أسس ذلك لأرضية ساهمت في التحول الذي حصل لدى الطرف الأمريكي مع إعلان حزمة العقوبات الجديدة منذ أيام.
ثالثاً: أثبت التوجه الأمريكي فراغه من القدرة الفعلية. الحرب الإقتصادية والتي أثرت بشكل ما على الوضع الإقتصادي الداخلي، وهو النتيجة الحتمية للعبة الإقتصاد والسياسية والإعلام، كانت بأغلبها حرب نفسية وإعلامية. اضطرت واشنطن للأخذ بالإعتبار تهديدات طهران وقدرتها على لعب أوراق عديدة في المنطقة سياسية وعسكرية، ودعم ذلك حجم طهران في السوق النفطية وما يعنيه ذلك بالنسبة لمصالح أوروبا وسعر النفط. جاء تراجع وتيرة الحرب في سوريا واليمن، وانشغال واشنطن في انتخاباتها الداخلية لصالح الطرف الإيراني. خرجت العقوبات لكنها فتحت الباب لبعض الأطراف للتعامل مع إيران. شكًّل ذلك بحد ذاته تراجعاً في الموقف الأميركي. هو التراجع الذي كان صلب خطاب الإمام الخامنئي (دام ظله) منذ أيام.
لم تكن العقوبات الأمريكية إلا أداة حربٍ إقتصادية تعتمد على نتائج لعبة السياسة والإعلام. وهو ما يعني أن هذه العقوبات لم تأتي ضمن استراتيجية أو على أساس رؤية واضحة. هي البراغماتية التي تتصف بها واشنطن لكنها تأتي اليوم في ظروفٍ مختلفة. ظروفٌ واقعها ليس لصالح الغرب وحلفائه. لم تفشل واشنطن في رهانها فحسب، بل جعلت من العقوبات بدايةً لتحولٍ نحو واقعٍ تضطر فيه أمريكا للتراجع. أخفقت واشنطن في حربها ضد طهران وانتصرت الحقائق على الرهانات. فهل يعتبر المراهنون؟!