مصر الصامتة
إلى عهد قريب، وبقوة حقائق الجغرافيا وركائز السياسية، كانت القاهرة الرقم الصعب في الشرق الأوسط، أمام أية جهود تبذل للتطويع والإلحاق النهائي بالغرب، وبشكل كامل، لتتبدد الآمال فجأة وتنزوي، عقب تفجر أزمة القدس، وتظهر مصر كلها كأنها رهينة لاتفاق غير مكتوب، طرفاه نتنياهو وواشنطن، ومفوضه في الشرق الأوسط "بن سلمان"، الساعي وراء نظام إقليمي جديد، يساعده للوصول للعرش السعودي، على جثة مصر.
خفت الضوء المصري على المستوى السياسي بشدة، وتراجعت القاهرة، حتى على سلم الأولويات الأمريكية، إلى حليف من الدرجة الثالثة، لا يُنتظر منه حراك أو تُخشى من جانبه ثمة معارضة، والمقدسات كافة هتكت، والأستار منزوعة، والبلد معروضة.
في أزمة نقل السفارة الأمريكية لدى العدو الصهيوني إلى القدس، وقفت القاهرة صامتة، بينما يتغنى رجال النظام بالعلاقة الخاصة جدًا بين السيسي ودونالد ترمب، و"الكيميا" بين شخصياتهما، في استرجاع لما كان يردده إعلام السادات عن العلاقات الشخصية الوثيقة بينه، وبين كل من مرّوا على البيت الأبيض، من أول نيكسون، ثم فورد، نهاية بريجان.
صمتت القاهرة في وقت عصيب، كلمتها مطلوبة وموقفها يُنتظر، ولم يتكلم أحد، ولم يخرج بيان من وزارة الخارجية يعبر عن بلد لها دور، هي مطلوبة إليه بأكثر ما هي طالبة له، حتى في العدوان الصهيوني على سوريا، كان الصمت هو الإستراتيجية المعتمدة، ولم يدرك النظام المصري أنه وإن كان خيارًا غير مكلف، فأنه يهين، وبشدة.
لا يرغب النظام المصري الحالي في دور يرتب عليه ثمنًا، ويتجنب حتى الإشارة إلى وجوده، وكأنه يريد أن ينسى الكل مصر، ويجتهد –في المقابل- أن يمضي بحماس خلف "ابن سلمان"، وهذا الطريق نهايته الوحيدة الخروج من الشرق الأوسط، واستنزاف قوة مصر ووزنها الأقليمي، لصالح كيانات لن تعمل لصالح العرب، وهي راغبة بشدة في ملء الفراغ العربي الناتج أساسًا عن الانكفاء المصري المأساوي.
انتفاضة غزة التي تجابه الآن العدو الصهيوني وحدها، بلا ظهير عربي، متجردة من شريان يمد ويهب مقومات الحياة اليومية لمليوني إنسان عربي، وتضغط عليه دول عديدة لضمان دور مقابل المساعدات أو الهبات، مثل تركيا وقطر، والدولتان لا يمكن اعتبار نواياهما طيبة، فأولاهما ترتبط بعلاقات تجارية عميقة مع الكيان الصهيوني، وعضوة بحلف الناتو، والأخرى تستضيف أضخم القواعد الأمريكية "العديد"، وكلتاهما ضالعتان في العدوان على سوريا، بالتمويل والإيواء للإرهابيين.
في مخيم اليرموك، وهو مثال واحد، أساءت بعض التنظيمات الفلسطينية بشدة لسوريا، في إطار حلف عجيب، مع تركيا وقطر والسعودية، وتركت شرخًا عميقًا في العلاقة مع أكبر داعم عربي للمقاومة، خلال العقود الأربع الأخيرة.
غزة كانت حتى العام 1967 مسؤولية مصرية، انتزعت منها بفعل الهروب الساداتي من أزمات المنطقة، وتراجعه إلى الوادي الضيق، لتغرق مصر، في عهده والعهود التي تلته، في أزمات مصنوعة، بعضها من صنع فشل الإدارات المصرية المتعاقبة، وبعضها تم تصديره إليها من الحليف الأمريكي، بعد إجبارها على مزيد من التراجع، وإتباع وصفة إصلاحية تجرد الدولة ذاتها من دور داخل حدودها.
القاهرة الهاربة من دور، هو لها بطبائع الحقائق والتاريخ، تركت قلبها عاريًا، ينتظر حراكاً شعبياً، شاهدناه في أزمة رفع أسعار خدمة مترو الأنفاق، وإن كان لم ينضج بعد لانتفاضة، وفشلت كل محاولات ضبط الأطراف، في سيناء، التي ترتوي رمالها بدماء أشرف القتلى، في ظل رؤية للقيادة تتعامي عن عدوها الحقيقي، وقوتها مكبلة بقيود كامب ديفيد، وحدود ووهمية صنعتها اتفاقية بين مستعمرين سابقين، وفي الحدود الغربية، بعد تفكك ليبي، ينتظر هو الآخر دور عربي بقيادة مصرية.
والعمليات العسكرية المصرية الجارية في سيناء، والمستمرة منذ 5 سنوات كاملة، لا تلبث أن تنطلق لتبهت أخبارها، ثم تسقط إلى النسيان، حاصدة الفشل، وتزيد من الهوة بين الدولة والشارع، تاركة المجال لمعارضة أمريكية الهوى، تبث السموم حول التخلي عن الجيش، والتخلص من أعباء أثمان السلاح، طالما فشل في أداء الدور المنوط به، وهو عين المطلوب صهيونيًا، أن تتخلى مصر تمامًا عن ما يمكن أن يغير المعادلة الحالية في الشرق الأوسط في المستقبل.
أزمة مصر كلها تتلخص في دور مفتقد، خارج حدودها، في النظر لأبعد من مواقع الأقدام، فالاقتصاد وإن كان الهمّ اليومي والفشل الواقع للنظام، فأنه يأتي تاليًا في عناصر الحل، أزمة مصر تبدأ وتدور حول "التبعية"، التي تجعل من نظام حكمها يتوارى خلف أسوار القصور، فيما شعبها يكافح يوميًا لقاء لقمة العيش، لا ثمة أمل في غد جديد.
العهد