بقاء إيران في الإتفاق النووي والتأسيس لنظام عالمي جديد
أسامة رحال
خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الإتفاق النووي مع إيران، قبل أن ينفذ كل كل موجباته، بعد أشهر من التلويح بذلك، دون تقديم أي أدلة حقيقية على مزاعمه تجاه بنية الإتفاق ومندرجاته، في ظل تأكيد وكالة الطاقة الذرية على إلتزام إيران التام ببنود الإتفاق النووي.
على أنّ المفاجأة لم تكمن في نكث الأمريكي للعهود، بل في البقاء الإيراني في الإتفاق، رغم الخروج الأمريكي. إذ إنّ الجمهورية الإسلامية في إيران امتصت الموجة الأمريكية، بصبر فارسي معتاد، محاولة رد الصاع الأمريكي، بدبلوماسية حذقة، معتمدة على قواعد القانون الدولي فيما خص الإتفاقات الدولية، التي ينضوي تحتها الإتفاق النووي، فهو ليس إتفاقا ثنائيًا يسقط بخروج أحد أطرافه، بل هو إتفاق دولي وقّعت عليه إلى جانب الجمهورية الإسلامية الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا.
إلا أنّ الإيرانيين طلبوا من الأوروبين تقديم ضمانات حقيقية للبقاء في الإتفاق، وكأن الطرف الذي خرج لتوّه من الإتفاق لا يقدم ولا يؤخر في شيء على الساحة الدولية.
وليس الطلب الإيراني ضربًا من الخيال بل هو طلب واقعي وممكن، كما يمكن اعتباره فرصة ذهبية للأوروبيين، لبدء الخروج من الهيمنة الأمريكية، عبر البقاء ضمن الإتفاق دون الطرف الأمريكي، الأمر الذي يعني بقاء التعامل الإقتصادي الإيراني الأوروبي المباشر، وزد على ذلك أنه يفتح الباب أمام التعامل المباشر باليورو بين الطرفين، أي أنّه عمليا يدعم التخلي عن سطوة الدولار الأمريكي والتبعية له، كما كل التبعية في شتى الصعد. ومن هنا يمكن أن يفسر كلام المستشارة الألمانية انجيلا ميركل التي أكدت أنّ: "أوروبا ليست بحاجة للحماية العسكرية الأمريكية".
كل ما ذكر آنفًا يصب في بوادر التأسيس لنظام عالمي اقتصادي سياسي جديد، يتخلى عن الأحادية الأمريكية ويتجه نحو التعددية القطبية. النظام العالمي الجديد الذي بدأ بالتبلورمع القبضة الروسية الحديدية في مناطق نفوذها عموما وظهر خصوصا في سوريا، كما حملت الصين مشعل النظام العالمي الجديد إياه عبر طفرتها الإقتصادية الهائلة.
لكنّ الدور الأوروبي في هذا النظام عموما، وما سيؤول إليه الحال في شأن الإتفاق النووي تحديداً، يعتمد على وجود إرادة أوروبية حقيقية في التخلص من الهيمنة الأمريكية أو على الأقل وجود قدرة سياسية واقتصادية على تحمل ذلك، وإلا يكون الدور الأوروبي الحالي في الإتفاق النووي مكملا للدورالأمريكي، ومحاولة لتأمين سلم نجاة للرئيس ترامب ينزل به عن "ميدنته" دون الذهاب إلى مواجهة شاملة مع إيران لا تحمد عقباها.
على أي حال، فإنّ الإيرانيين يمارسون إتقانهم للتفاوض في نفس رفضهم الدخول في مفاوضات إتفاق جديد، كما في عدم تسرعهم في الخروج من الإتفاق الحالي، تماما كما أجادوا التفاوض في خضم المباحثات التي أسست للإتفاق النووي، إذ إنّ إيران مفاوض عتيد، يحافظ على تعهداته ويقتنص الفرص السانحة لتحقيق انتصارات غير متوقعة.