kayhan.ir

رمز الخبر: 71473
تأريخ النشر : 2018February09 - 20:41

احمد جرّار شهيداً.. المطارد الناجي من "الذل"


عبد القادر عقل

كان يعلم أن طريق «العبث بأمن إسرائيل» ومستوطنيها يتفرّع إلى ثلاثة خيارات: الاعتقال، المطاردة، الشهادة، لكنه سلك الدرب غير آبهٍ للنتائج. فرحت "إسرائيل" بما سمّته إنجازاً، لكنها تعلم أن جيشاً بكامله، ومعه أجهزة أمن قوية وكبيرة، طاردوا شاباً في منطقة تخضع لحكمهم، وقد أخفقوا في الوصول إليه أربع مرات على الأقل، ليموت بطريقة تشهد أنه رفض المذلة، ان الذي أُذِلّ هو «الجبروت الإسرائيلي» المكسور على أعتاب بندقيته.

خلف كيان العدو، أيضاً، كيان طفيلي آخر من «جلدة» الشهيد أحمد. «سلطة أوسلو» تتقدّم خطوات في ما هو «مطلوب» منها لتمثّل في مسألة ملاحقة ثم استشهاد جرّار، آلة عدوانية شريكة في كشف المقاومين وسفك دمائهم.

في التاسع من كانون الثاني 2018، أعلن أحمد نصر جرّار بطلقات بندقيته افتتاح العام الجديد، مستهدفاً مستوطناً ــ حاخاماً ــ إسرائيلياً في عملية نوعية غرب نابلس. جهود مضنية قضاها «الشاباك» الإسرائيلي وأجهزة الجيش والأمن الأخرى على مدار أيام طويلة، محاولاً فك لغز العملية، ليصل بعد نحو أسبوعٍ إلى أن جرّار هو «قائد خلية حماس» المسؤولة عن العملية.

كشفت المعطيات آنذاك أن الخلية انسحبت من منطقة نابلس إلى جنين قاطعةً مسافة تزيد على 50 كلم في خط انسحابٍ طويلٍ وغير تقليدي. وما إن حدّدت قوات «اليمام» الخاصة هدفها وأوشكت على إطباق الكمين، حتى وقعت في كمين مضاد، فأصيب جنديان واستشهد ابن عمه أحمد إسماعيل جرّار، فيما نجا «أحمد النصر».

جُنّ جنون العدو، وكثّفت أذرعه الأمنية والعسكرية جهودها في الأسبوعين التاليين لـ«تحييد» جرّار، الذي تحول إلى أيقونة فلسطينية، بتصفيته أو باعتقاله، ودهمت مناطق كثيرة عدة مرات، وأحياناً في وضح النهار، لكن المطارد نجح في الفرار ثلاث مراتٍ خلال 24 ساعة فقط. صحيح أن جرار، وهو من بلدة برقين جنوب غرب مدينة جنين، لقي أمس المصير الذي سعى إليه بعد اشتباك آخر وأخير مع قوات العدو، لكن صفحة المقاومة لم تُطوَ، ليس فقط لأن ثمة مطلوباً آخر يطارده العدو على النسق نفسه، بعد تنفيذه عملية طعن أول من أمس قرب نابلس، بل لأن النموذج الذي قدمه جرار، ومن قبله الشهيد باسل الأعرج ومجموعة من شباب نفذوا عمليات فردية أو جماعية خلال السنوات الثلاث الماضية، يعزز أن «انتفاضة القدس» متواصلة، وأن إمكانية تنفيذ عمليات أخرى وعلى نحو احترافي مثلما حدث، واردة، أو في حكم المؤكد.

انتهت المطاردة الحثيثة التي استمرت لأسبوعين هما جزء من زهاء شهر إذا احتسبنا المدة الفاصلة بين تنفيذ جرار وخليته عملية نابلس، وبين الهجوم الإسرائيلي على جنين ومحاصرتهم، وذلك باشتباك سريع مع قوات العدو أثناء تحصن جرار داخل أحد المنازل في بلدة اليامون، شمال غربي جنين، شمالي الضفة المحتلة. في تفاصيل الهجوم، جاءت الرواية الإسرائيلية كما يأتي: كان جرّار جاهزاً للاشتباك، وخرج مسلحاً من المنزل الذي تحصن داخله لبدء الاشتباك مع القوة الإسرائيلية، لكن رصاص الأخيرة كان أسرع. وعقب استشهاده، نقلت تلك المصادر أنها عثرت على حقيبة عبوات ناسفة، كما بث الإعلام العبري صوراً لبندقية «إم 16».

الهشاشة الإسرائيلية

مع ذلك، كشفت "إسرائيل" عن هشاشتها مرتين: الأولى عندما وضعت هيبتها مقابل اعتقال أو تصفية مقاوم واحد استطاع النيل من أحد المستوطنين المتطرفين، والأخرى عندما احتفلت بالنصر لتمكنها من اغتياله، علماً أنها جندت لذلك كل أجهزتها الأمنية ذات الصلة، وهي تفتش عنه في منطقة تحظى بسيطرة أمنية وعسكرية تسمح لها بالدخول إلى أي نقطة منها، هذا من دون الحديث عن المساعدات التي قد تكون تلقتها. وكاد نجاح الأجهزة الإسرائيلية في تصفية المقاوم جرار يتحول إلى احتفال سياسي تنافس فيه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، مع وزرائه، في التعبير عن «النصر» الذي تحقق. تباهى نتنياهو في تغريدة على «تويتر» بـ«نجاح الأجهزة الأمنية» في الوصول إلى جرار وتصفيته، واستغل المناسبة كي يتوعد بالنيل باستهداف كل من ينفذ عمليات ضد "إسرائيل".

أما وزير الأمن، أفيغدور ليبرمان، فسارع إلى «تهنئة قوات الأمن الإسرائيلية وأجهزة الشاباك ووحدة مكافحة الإرهاب على العملية الناجحة»، مضيفاً: «كان من الواضح أن الأمر لم يكن سوى مسألة وقت قبل أن نصل إلى زعيم الخلية الذي قتل الحاخام رازيئيل شيفح»، ثم عبّر عن أمله في الوصول أيضاً إلى قاتل الحاخام إيتامار بن غال. ورأى وزير الأمن الداخلي، غلعاد إردان، في الاغتيال أن «رسالتنا واضحة، سنصل إلى القتلة أينما كانوا يختبئون، حتى الإرهابي الذي قتل إيتمار بن غال سننهي الحساب معه». لكن زوجة الحاخام الذي قتله جرار رأت أن الاغتيال «لم يحل المشكلة بعد»، متسائلة عن مصير بقية المقاومين: «ماذا عن البقية؟ ماذا عن الإرهابيين الذين يخططون لقتلنا؟». في المقابل، رأى معلق الشؤون العسكرية في القناة العاشرة، ألون بن ديفيد، أن الشهيد جرار نجح «أولاً وقبل كل شيء بالصمود ثلاثة أسابيع منذ تنفيذ العملية»، مضيفاً: «ما نتحدث عنه هنا هو مجموعة نجحت في الاختباء ولم تكشف هوية أفرادها أمام وسائل الإعلام ولم تستخدم أجهزة خلوية، لذلك كان إحباطهم معقداً أكثر... سنرى جهوداً أخرى لحماس مع دفع إيراني إلى تنفيذ عمليات أخرى».

الرواية المحلية

مصادر محلية قالت لـ«الأخبار» إن أصوات تبادل إطلاق النار بدأت في تمام الخامسة فجراً وسط انتشارٍ كبير لجنود العدو، واستقدام جرافة عسكرية هدمت المنزل الذي تحصّن فيه، ثم أخرج الجنود جثماناً مغطّى. وأوضح شهود عيان أن المكان الذي تحصّن فيه الشهيد «مبنى غير مأهول»، وبعد الاشتباك وُجدت فيه زجاجات مياه وبعض الطعام معظمه مصنّع منزلياً، فيما قالت والدته إن العائلة تسلّمت بعض متعلقات ابنها، من بينها بنطال وبلوزة تعرّفت إليه منهما. وأشارت الوالدة إلى أن نسخة القرآن التي عُثر عليها مع أحمد هي إهداء من والده الشهيد نصر. وأضافت أمام الصحافيين: «ابني فخر لفلسطين... ليس ابني وحدي، بل هو ابن فلسطين وفخر للجميع، وزلزل الكيان كله الحمد لله».

في أعقاب تأكيد استشهاد «أحمد النصر»، عمّ الإضراب الشامل مسقط رأس الشهيد في جنين وسط مسيرات غاضبة، وشهدت عدة مناطق في الضفة مسيرات أخرى، منها مدينة نابلس ومدخل البيرة الشمالي في رام الله، وأعلنت العائلة فتح بيت العزاء في ديوان آل جرّار، رغم أن الجثمان لا يزال محتجزاً لدى العدو. كذلك أطلق أسير محرر من مخيم بلاطة، شرق نابلس، اسم أحمد جرار على مولوده الجديد تيمناً بالشهيد. ويُذكر أن جرّار يبلغ من العمر 25 عاماً، وتخرج في الجامعة العربية الأميركية في جنين، وكان يعمل في سوبر ماركت في موازاة بحثه عن وظيفة في مجال دراسته. إلى ذلك، تسبّب اقتحام العدو مدينة نابلس، بحثاً عن «المطلوب الثاني»، في استشهاد شاب وإصابة عشرات المواطنين واعتقال سبعة آخرين ليس بينهم المطلوب، بعد محاصرته إحدى البنايات. وأعلنت وزارة الصحة وصول شهيد وثلاث إصابات إلى مستشفى النجاح الجامعي، بينها حالتان خطرتان، كذلك أعلن مدير المستشفى سليم الحج يحيى استشهاد الشاب خالد وليد تايه.

في السياق، صرّحت «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، رسمياً ولأول مرة أن الشهيد كان يرأس خلية نابلس التي اغتالت الحاخام رزيئيل شيبح قبل أسابيع. وأضافت في بيانٍ أمس: «لقد أثبت أبطال كتائب القسام في جنين، أبناء جرار وريحان وطوالبة، أن المقاومة تسري في عروقهم وأن العدو لا يفهم إلا لغة المقاومة». وتوعدّت بالقول: «نبشر الاحتلال بما يسوؤه في كل الميادين وما عمليات إيتمار، وعبد الحميد أبو سرور وحفات جلعاد (عملية جرار)، إلا أمثلة ذلك»، في إشارةٍ ضمنيةٍ إلى تبني هذه العمليات التي وقعت منذ 2015. كذلك، قال المتحدث باسم الكتائب، أبو عبيدة، في تغريدة عبر «تويتر»، إن جرّار «بصمة في سجل المجد وضعتها كتائب القسام، وصورة ناصعة للضفة الباسلة ستكون لها أوجه أخرى متجددة».

هكذا، بعد شهرين من القرار الأميركي بإعلان القدس «عاصمة لإسرائيل»، يرتقي أحمد جرّار شهيداً ليلتحق بوالده الذي سبقه عام 2002، بطريقة مشابهة من ناحيتين، الأولى النجاح بالفرار أكثر من مرة، والثانية الاشتباك حتى الشهادة، علماً أن الشهيد الأب اشتبك من على كرسيه المتحرك مع قوات العدو خلال محاصرة مقاومين داخل منزلٍ في طوباس، فغطى على انسحاب المقاومين فيما استشهد «قائد القسام» شمالي الضفة.