«خادما لأولى القبلتين وثالث الحرمين»..لمن هذا اللقب وماذا يعني؟!
يَتحدّث المَسؤولون الأردنيون في جَلساتِهم الخاصّة عن تَعرّض بِلادهم لحَملةِ استهدافٍ مُكثّفةٍ هذهِ الأيّام من أكثر من عاصِمةٍ عَربيّةٍ إلى جانب "إسرائيل"، ويُشيرون بأصابِع الاتّهام إلى المملكة العربيّة السعوديّة بالذّات، ويُعلّلون ذلك باتّخاذ الحُكومة طِوال الأشهر الماضية سِياسات "تَنأى” بالبِلاد عن الكَثير من الحُروب والقضايا الشائِكة في المِنطقة العَربيّة، وخاصّةً حَرب اليَمن، ودِفاعها القَويّ عن القُدس المُحتلّة.
المَسؤولون نَفسهم الذين تَحدّثت مَعهم "رأي اليوم” في اليَومين الماضيين، يَضرِبون مَثلاً، بالحَملةِ الإعلاميّة المُكثّفة التي ارتكزت على إحالة ثلاثة من أُمراءِ الأُسرةِ الحاكمة يَتولّون رُتب عُليا في الجَيش الأُردني إلى التّقاعد، بَينهم شقيقان للعاهِل الأُردني الملك عبد الله (علي وفيصل)، والثّالث ابن عمّه (طلال بن محمد)، في آطار "إعادة هيكلة” للقوّات المُسلّحة الأُردنيّة، فقد ذهبت بعض المَواقع الإلكترونيّة إلى الحَديث عن "انقلابٍ” ووَضع هؤلاء رَهن الاعتقال أو الإقامةِ الجَبريّة، وهي تقارير جَرى نَفيها عَمليًّا بظُهور بَعض هؤلاء الأُمراء في مُناسباتٍ عامّة.
الديوان الملكي الأُردني الذي لم يُصدِر بياناتٍ مُنذ سنوات تتضمّن ردًّا أو تَعليقًا على أنباء تَردْ في وسائل الإعلام، بادَر إلى إصدارِ بيانٍ مُفصّلٍ ، يُفنّد فيه هذهِ الادعاءات، وكان لافِتًا أنّه أشار بأصابِع الاتّهام إلى دُولٍ عربيّةٍ لم يُسمّها عندما قال في إحدى الفقرات، ونحن نَنقل حَرفيًّا "نحن نعرف أن هُناك من يسعى لإضعاف جُهود الأردن تُجاه قضيّة القُدس والتي كان للمملكة دورٌ كبيرٌ في تَوحيدِ الصّف العربيّ والإسلاميّ نَحوها بَعد القرار الأمريكيّ الأخير”.
الضجّة التي أُثيرت حَول إحالة الأُمراء الثّلاثة إلى التّقاعد تَظل قضيّةً هامشيّة، في نَظر بعض المُراقبين، وسُرعان ما تتجاوزها الأحداث، ويَهدأ غُبارها، لوجود قضايا وتحدّيات أُخرى أكثر أهميّةً ستَطفوا على السّطح في الأردن في العام الجديد.
الأُردن غَرّد خارج سِربْ بَعض العَرب الخليجيين تحديدًا عندما تَصدّى بقُوّةٍ لمَوضوع تَهويد القُدس، ونَقل السّفارةِ الأمريكيّة إليها، وذَهاب عاهِله إلى تركيا على غَير رغبةِ هؤلاء الذين طالبوه بذلك رَسميًّا أثناءِ زِيارته الخاطِفة إلى الرياض، حيث تَوجّه منها مُباشرةً إلى اسطنبول ليَجلس إلى يَمين الرئيس رجب طيب أردوغان أثناء تَرؤسِه وافتتاحه لقِمّة مُنظّمة التّعاون الإسلامي الطّارئة للتصدّي للقرار الأمريكيّ الاستفزازيّ، وهذهِ خَطيئةٌ كُبرى في نَظر البَعض الذين لا يُريدون أيَّ دَورٍ للأُردن، أو تقاربِه مع إسطنبول.
الرئيس أردوغان قَدّر للعاهِل الأُردني حُضوره هذهِ القِمّة، وأشاد بدَوره في الدّفاع عن المُقدّسات في مُواجهة أعمال التهويد، وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما وَصفه بأنّه "حامي القُدس والمُقدّسات”، وهو تَعريفٌ يَتجاوز القُدس المُحتلّة ومُقدّساتِها الإسلاميّة والمسيحيّة، ولا نَعتقد أن الرئيس أردوغان لا يَعرف دلالات هذا التّوصيف وإشكالاتِه، وهو الذي يَختار عِباراتِه بعِنايةٍ فائِقة.
العاهل الأُردني يَحرص في كُل خِطاباتِه على التّأكيد على انتمائِه للأُسرة الهاشميّة، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي لا يَروق للأُسرةِ الحاكمة السعوديّة، واضّطر الملك سلمان بن عبد العزيز إلى التدخّل في القِمّة الإسلاميّة التي عُقِدت في الرياض على "شَرف” الرئيس دونالد ترامب للتّعقيب على وَصفه، أي العاهِل الأُردني، للرّسول محمد بأنّه الرسول العَربيّ الهاشميّ، والتّأكيد أنّه رسول الأُمّةِ بأسْرِها.
فالعاهل الأُردني استهلّ كَلِمته في القِمّةِ المَذكورة "بالصّلاة والسّلام على سيدنا محمد النبي العَربيّ الهاشميّ الأمين”، فردَّ عليه نَظيره السعوديّ مُصحّحًا "أن الصّيغة الصّحيحة للصّلاة على النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم”، أي دُون إضافة "العَربيّ الهاشميّ”.
شَهِد البرلمان الأُردني ظاهِرةً تُشكّل امتدادًا لصِراع المَرجعيّات الدينيّة الخَفي، بين الأردن والسعوديّة، عندما ظَهرت لأوّل مَرّة تَحت قُبّته مُلصقات على صُدور بَعضِ النوّاب تَحمل صُورة الملك عبد الله الثاني مُلقّبًا بلَقب "خادِم أُولى القِبلتين وثالِث الحَرمين”.
في الدّول العَربيّة وبَرلماناتِها لا يَوجد شيء يأتي بمَحض الصّدفة، وكُل شِعار أو مُلصق، أو مَوقف سياسي مَحسوب، وفي أحيانٍ كثيرة، مَرضيٌّ عَنه، أو حتى مُوحى بِه من قِبل الدّولة العَميقة، وهذهِ الظّاهرة البَرلمانيّة الأُردنيّة اللافتة لا يُمكن أن تَكون استثناء.
لا نَعتقد أن هذهِ التّسمية الجَديدة للعاهِل الأُردني، وهي غَير مُفاجِئة على أيِّ حال، لأنّها تَعكس واقِعًا مَيدانيًّا وقانونيًّا على الأرض يَتمثّل في الوِصاية الهاشميّة على المُقدّسات العَربيّة والإسلاميّة في المَدينة المُقدّسة، ستَمر مُرور الكِرام خاصّةً في أوساط السّلطات السعوديّة، بل ربّما أرادَ هؤلاء النوّاب تَثبيت هذا اللّقب، ووضعٍهم المُلصق على صُدورِهم كبالون اختبار، أو تَمهيد لتَعميقه، وتَثبيتِه رَسميًّا، وتَوجيه رِسالةٍ إلى أكثر من جِهة، بأنّ هُناك مَرجعيّة هاشِميّة إسلاميّة قديمة ومُتمدّدة، بَدأت تُزاحم المَرجعيات الأُخرى، مِثل الأزهر الشريف في مِصر، والسعوديّة في مَكّة والمَدينة، والعُثمانيّة في إسطنبول، والشيعيّة في قُم والنّجف أيضًا.
الدّولة الأُردنيّة بَدأت في رأي هذهِ الصحيفة "رأي اليوم” الخُروج من مُحاولات التّهميش التي تُريد بَعض الدّول فَرضها عليها، بهُجومٍ مُضاد، مَحسوب جيّدًا، نَتيجةً لإدراكها بأنّها باتت مُستهدفةً من أكثر من جِهة، وباتَ هذا الاستهداف عَلنيًّا في إطار يَرى البَعض أنّه يَصُب في مَشاريع قادِمة، وأبرزها تَغيير تَركيبة الحُكم تَمهيدًا لقِيام الوَطن البَديل.
إنّه تَحرّكٌ مَحفوفٌ بالمَخاطِر، ويَأتي في وَقتٍ تُواجِه فيه البِلاد ظُروفًا اقتصاديّةً صَعبة، نتيجة عُقوق ذَوي القُربى ماديًّا وسياسيًّا، ولكن يبدو أن السّكين وَصلت إلى الرّقبة الأُردنيّة، ولا بُد من الخُروج من مَرحلة الصّمت، الذي جَرى تَفسيره على أنّه يأتي من مُنطلق الضّعف، وهذا ما يُفسّر قًول العاهِل الأُردني الملك عبد الله أنّه يَرفض مِئة مِليار دولار مُقابل التخلّي عن القُدس.. والله أعلم.
رأي اليوم