الف يوم من العدوان على اليمن: خطة جديدة على أنقاض صالح
دعاء سويدان
أتمّ العدوان السعودي على اليمن، ألف يوم من عمره، دونما مؤشرات إلى إمكانية انطواء صفحته قريباً. على العكس من ذلك تماماً، معظم المؤشرات السياسية والميدانية تنبئ بأن حرب ابن سلمان ــ ابن زايد تدخل طوراً جديداً من التصعيد، قد يكون أكثر حدة وصعوبة من كل ما سبقه.
مردّ التقدير هذا أن «التحالف» يستشعر، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في 25 آذار/ مارس 2015، أن خصمه الرئيس، «أنصار الله»، بات وحيداً على الصعد كافة (الجبهات والساحة السياسية وإدارة الدولة)، وبالتالي فإن إمكانية الاستفراد به وحمله على الرضوخ أصبحت أكبر من أي وقت مضى. تقديرٌ هو ما يحمل الرياض وأبو ظبي على تزخيم مطامحهما في هذا البلد من جديد، والمغامرة بآخر ما تبقى لهما من أوراق للخروج بنصر عسكري وسياسي لا يزال مستعصياً منذ ما يقارب ثلاث سنوات
حتى ما قبل التحرك الأخير الذي بادر إليه الرئيس السابق علي عبد الله صالح، ضد «أنصار الله» في صنعاء، كان «الستاتيكو» المسيطر على الجبهات كافة قد خفّض إلى أدنى المستويات الآمال السعودية بإمكانية بلوغ إنجازات عن طريق العمل العسكري، ليركن ولي عهد المملكة، محمد بن سلمان، إلى «ألاعيب» سياسية تستهدف حثّ إيران على الإتيان بـ«أنصار الله» مستسلمين إلى طاولة التفاوض، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل هي الأخرى. هكذا جاء «انقلاب» صالح على «أنصار الله» ليشكل قشة النجاة بالنسبة إلى السعودية والإمارات. سرعان ما تبنّت الدولتان «الحركة الانقلابية»، وبادرتا إلى دعمها إعلامياً وميدانياً (من خلال الغطاء الجوي)، إلا أن تطور الأحداث بصورة دراماتيكية وسريعة لمصلحة «أنصار الله»، وانتهاءها بمقتل زعيم حزب «المؤتمر الشعبي العام»، ولّدا خيبة كبيرة لدى «التحالف» ومناصريه. خيبة مؤقتة لم تطفئ آمال الرياض وأبو ظبي بإمكانية هزم «أنصار الله»، بقدر ما فتحت الباب على سيناريوات خطيرة لا يبدو أن عواصم العدوان تولي أهمية للتحذيرات الدولية من تبعاتها على المستوى الإنساني.
بعدما بدا لقيادة «التحالف»، إثر الأحداث الأخيرة في صنعاء، أن لا جدوى من المراهنة على القبائل التي مال أغلبها إلى «أنصار الله» فيما وقف بعضها على الحياد، لم تجد أمامها إلا المراهنة على احتمال انسحاب القوات الموالية لصالح (الحرس الجمهوري) من مواقع استراتيجية، بما يؤدي إلى خلخلة صفوف «أنصار الله». طابقت حسابات حقل «التحالف» حسابات بيدر الحرس الجمهوري فيما يتصل بالساحل الغربي، حيث عمدت عدة كتائب من اللواء العاشر ــ حرس جمهوري، كان صالح قد دفع بها إلى خطوط المواجهات في موزع والوازعية بضغط من «أنصار الله»، إلى الانسحاب من مواقعها، من دون أن تلقى اعتراضاً من الجيش واللجان الشعبية اللذين لم يجدا مصلحة في الدخول في معارك مع قوات صالح. انسحاب أفسح في المجال أمام القوات الموالية لـ«التحالف» ومعها القوات السودانية للزحف نحو مدينة الخوخة جنوب الحديدة، والسيطرة عليها، والتقدم منها نحو مناطق أخرى.
هذا «الإنجاز» سرعان ما تبخّر مع دفع «أنصار الله» بتعزيزات إلى الساحل الغربي، تمكنت بواسطتها من استعادة معظم المواقع التي سيطرت عليها القوات الموالية لـ«التحالف»، عقب إيقاعها في الأخيرة، خصوصاً الجنوبية منها، خسائر بشرية كبيرة. عن طريق «المغامرة» الميدانية تلك، تأكد لقيادة «التحالف» أن «عدة الشغل» الحالية غير كافية لقلب المعادلة في وجه «أنصار الله»، سواء في المحافظات الساحلية أو في الداخل.
وعليه، بدأت تتكثف مساعي السعودية والإمارات لإعادة ترتيب أوراق معسكرهما، سواء في الدخول في مفاوضات جديدة مع حزب «التجمع اليمني للإصلاح» («إخوان مسلمون») لتفعيل دوره الميداني، أو بالعمل على استقطاب الأجنحة «المؤتمرية» الموجودة وجوهها في الرياض والقاهرة، والتي يظهر أنها انتعشت إثر مقتل صالح.
في هذا الإطار، جاء اللقاء الذي جمع وليّ عهد السعودية، ومعه ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، بالقياديَّين «الإصلاحيَّين»، محمد اليدومي وعبد الوهاب الآنسي، في الرياض. لقاء لم يتأكد، إلى الآن، ما إذا كان قد أفلح في حبك خيوط الصفقة مع «الإصلاح»، على الرغم من أن المعطيات ترجّح تحقق ذلك السيناريو فعلاً. وفقاً للمعلومات، فإن «التجمع» منقسم على نفسه بين رأيين: أحدهما يدفع باتجاه الانخراط في الخطط العسكرية التي يُعدّ لها «التحالف» على جبهتي الساحل وصنعاء (تريد السعودية والإمارات أن يتصدر «الإصلاح» صفوف المحاربين في جبهة صنعاء ويحشد مقاتليه في نهم وأرحب وخولان ومناطق أخرى) ويتزعمه اليدومي والآنسي، وآخر يدعو إلى التريث وعدم الوقوع في «فخ جديد»، بل وإلى التفاوض مع «أنصار الله» بدلاً من تزخيم المواجهات معها، ويقود الجناح الأخير «الإصلاحيون» المتمركزون في تركيا والمحسوبون على قطر.
هؤلاء لا يبدو أن تأثيرهم على الأرض معادل لتأثير نظرائهم في الجناح الأول المؤيد للقتال، والذي بدأ، عملياً، تفعيل دوره على أكثر من جبهة؛ إما لكونه بات مقتنعاً بالاقتراحات السعودية والإماراتية الجديدة ومنخرطاً في متطلباتها، وإما لمحاولته تحسين شروط التفاوض مع الرياض وأبو ظبي من خلال السعي في تظهير نفسه الطرف القادر على حسم المعركة. هذا ما تجلى خلال الساعات الماضية في جبهة نهم، حيث استعرت المواجهات مع «أنصار الله» منذ صباح الإثنين، عقب توافد تعزيزات من مأرب، المحسوبة على «الإصلاح»، إلى منطقة الرمادة، تمهيداً للهجوم نحو منطقة مسورة، وسط نهم، من دون نتائج تُذكر إلى الساعة. أما جنوباً، فقد تمكنت القوات الموالية للرئيس المستقيل، عبد ربه منصور هادي، خلال الأيام الماضية، من تحقيق اختراقات جزئية ومؤقتة في جبهة بيحان في محافظة شبوة، بعد انضمام المقاتلين «الإصلاحيين» إلى عملياتها (تمكنت «أنصار الله» من استعادة مثلث بيحان الاستراتيجي بعدما أعلنت قوات هادي سيطرتها عليه)، فيما لا تزال جبهات تعز على حالها، من دون ظهور مؤشرات إلى إمكانية تبدل معطياتها، بفعل ثبات تحالف الجيش واللجان الشعبية والحرس الجمهوري هناك (لا يزال اللواء المحسوب على صالح المتمركز في تعز ثابتاً على موقفه بضرورة مواجهة العدوان)، وتوافر قوات احتياطية لكل جبهة.
على خط مواز، يتكثف شغل ماكينة «التحالف» في اتجاه لملمة شتات «المؤتمر»، وتجميع وجوهه وقياداته تحت لواء أحمد علي عبدالله صالح الموجود في الإمارات، ليشكل نجل الرئيس السابق أحد طرفَي «المعادلة الذهبية» التي تحلم بها السعودية والإمارات، إلى جانب نائب الرئيس، الذراع العسكرية لـ«إخوان اليمن»، علي محسن الأحمر. في هذا الإطار، تفيد المعلومات بأن اتصالات يجريها الأحمر مع القيادات «المؤتمرية» الموجودة في القاهرة، وفي مقدمها الأمين العام المساعد لحزب «المؤتمر»، سلطان البركاني، بهدف عقد مؤتمر للجنتين العامة والدائمة للحزب في العاصمة المصرية، تتطلع الرياض وأبو ظبي إلى أن يشكل رافداً للمرحلة المقبلة من العدوان. وتترافق تلك الاتصالات مع تحركات مماثلة يجريها رئيس حكومة هادي، أحمد عبيد بن دغر، وعضو اللجنة العامة في «المؤتمر» قاسم الكسادي، والقيادي «المؤتمري» رشاد العليمي، تستهدف استمالة قيادات الحزب التي لا تزال داخل اليمن، بما فيها تلك الموجودة في الجنوب، الذي بدأت قياداته وفصائله تستشعر اقتراب تلقّيها «صفعة» (ربما هي الأقسى منذ تسليم الجنوب للسعودية والإمارات) في حال اجتماع «التحالف» مع خصمَيها التاريخيين، «المؤتمر» و«الإصلاح»، في خندق واحد، في حين يتصاعد قلق الرئيس هادي ممّا ستؤول إليه التحركات الجديدة، خصوصاً أن معظم المعلومات تفيد بأن السعودية باتت مستعدة للتخلي عنه.
على المستوى الدولي، يبدو أن ثمة غطاءً أميركياً ممتداً للتصعيد السعودي ــ الإماراتي، على الرغم من الدعوات «المراوغة»، من حين إلى آخر، إلى رفع الحصار عن اليمن. في ذلك الاتجاه، يكثف السفير الأميركي لدى اليمن، ماثيو تولر، الذي لم يعد خفياً لعبه دوراً سلبياً في العمليات التفاوضية السابقة وسعيه الحثيث في الدفع نحو «خطط منحازة» تحقق للسعودية بالسياسة ما لم تنله بالحرب، جهوده لدعم خطة الرياض وأبو ظبي الجديدة. وتجلّى آخر تحركات تولر أمس، في لقائه، في مقر إقامته في الرياض، عضو اللجنة العامة لـ«المؤتمر»، محمد بن ناجي الشايف، في خطوة تتساوق مع التحركات السعودية ــ الإماراتية على خط «مؤتمري» القاهرة والرياض. وعلى الرغم من أن وزارة الخارجية الأميركية تبدي نوعاً من التمايز عن البيت الأبيض في ما يتصل باليمن (دعا ريكس تيلرسون قبل أيام إلى إيجاد حل سياسي للأزمة والسماح بوصول المساعدات)، إلا أن موقف الرئيس دونالد ترامب، مدعوماً بخطوات تولر، سيرجّح، على ما يبدو، كفة التصعيد في المرحلة المقبلة. تصعيد لا يظهر، إلى الآن، بالنسبة إلى «أنصار الله»، أن ثمة ممانعة روسية له، خصوصاً أن قيام موسكو، الأسبوع الماضي، بسحب بعثتها الدبلوماسية من صنعاء ونقلها إلى الرياض، بعث بمؤشرات سلبية جداً على هذا الصعيد.
على مقلب «أنصار الله»، تبدو الحركة مدركة لتفاصيل ما يُحاك ضدها، وخطورة الخطوات التي يعتزم «التحالف» الإقدام عليها. إلا أنها، وهي التي صمدت في مواجهة العدوان قرابة ثلاث سنوات، تعتقد أن ما تعمل عليه عواصم العدوان اليوم هو الورقة الأخيرة التي يمكن أن تستنجد بها للخروج بما يحفظ ماء وجهها، وأن وسائل الضغط الأقسى، من غارات وحصار وتجويع، قد استنفدت فاعليتها تماماً. وعليه، تظهر «أنصار الله» مطمئنة إلى ثباتها في مواجهة الخطط السعودية ــ الإماراتية الجديدة، لا سيما أن مقتل صالح أظهر عِظَم التلاحم الشعبي في وجه الرياض وأبو ظبي، والذي تعززّ على مدى ألف يوم بتضحيات تجعل كسره مهمة في غاية الصعوبة في الحد الأدنى.
إلى جانب الجهود السياسية التي يبذلها «التحالف» والقيادات الموالية له بهدف ترميم البيت «المؤتمري»، تبرز جهود مماثلة على المستوى الإعلامي، تستهدف وراثة الماكينة الإعلامية للرئيس السابق، علي عبدالله صالح، وتوجيهها نحو دعم المرحلة الجديدة من العدوان. في هذا الإطار، تعمل قيادات «المؤتمر» الموجودة في القاهرة، بالتنسيق مع نائب الرئيس، علي محسن الأحمر، وقيادات أخرى من «الشرعية»، على استقطاب الإعلاميين المحسوبين على الحزب، والإتيان بهم إلى العاصمة المصرية، لمعاودة عملهم في قناة «اليمن اليوم» التي انقسمت إلى ثلاث: واحدة موالية لـ«أنصار الله» تبث من صنعاء، وأخرى تابعة للرئيس المستقيل، عبد ربه منصور هادي، تبث من الرياض، وثالثة موالية لـ«مؤتمر الخارج» تبث من القاهرة. ولا يقتصر الجهد المبذول في ذلك الاتجاه، بل يمتد ليشمل صحافيين مؤيدين لـ«أنصار الله» (سياسياً لا أيديولوجياً) وآخرين مستقلين، بهدف تفريغ الساحة الإعلامية في اليمن من الأقلام والأصوات المناهضة للعدوان.