استدارة تركيّة نحو سوريا؛ ماذا عن واشنطن؟
زادت أنقرة من سرعة استدارتها نحو سوريا. التوجّه التركي الجديد يعدّ تحوّلاً نوعياً في سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي آثر الصلاة في جامع السلطان أحمد في اسطنبول على الصلاة في المسجد الأموي في سوريا خشية المرور بكنتونات كرديّة بين البلدين.
في الأشهر الماضية، ومنذ الحديث عن الاستانة والتعاون الروسي-الإيراني-التركي، اظهرت أنقرة نوعاً من الليونة نحو دمشق، التي بدورها خفّفت من حدّة الخطاب نحو تركيا مع التأكيد على سيادتها على كافّة الأراضي السورية وضرورة انسحاب القوات التركيّة "المحتلّة” في محافظة إدلب.
بالأمس، شكّل خطاب وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو تحوّلاً نوعياً في الخطاب تجاه سوريا حيث أكّد أن أنقرة لم تعد ترى خطرا في النظام السوري، بالتوازي مع إعلانه أنها (أنقرة) سوف تنسق مع موسكو عملية عسكرية ضد "وحدات حماية الشعب” الكردية في سوريا "إذا ظهرت الحاجة إليها”. لم يكتف الوزير التركي بالحديث عن ارتفاع "التهديد” السوري، بل أكّد أن ضريح سليمان شاه سيتم إعادته إلى مكانه القديم بعد عودة الأمور إلى طبيعتها في سوريا، ولعل هذا الامر سيكون بمثابة الخطوة الرمزيّة الأبرز لعودة العلاقات إلى ما قبل الأزمة، وبالتالي وضع ملفّات الخلافات والأحقاد تحت الطاولة السياسية، مع قابليّة استردادها عند أي مفترق.
ورغم أن الخطاب كان موجها للجانب السوري، إلا أن كلام أغلو جاء تحت عنوان "إياك أعني فاسمعي يا جارة”، فقد كانت واشنطن معنيّة بالخطاب أكثر من أيّ طرف آخر، وبالتالي حمل بين سطوره جملة من الرسائل والتداعيات.
لا شكّ أن التقارب التركي-السوري، ومن خلفه التقارب التركي مع روسيا وايران سيعزّز الشرخ القائم بين البلدين، وكما أنّ أي تحرّك عسكري ضدّ الأكراد سيكون بمثابة رصاصة الرحمة على العلاقات بين البلدين.
أتقن حلفاء سوريا استمالة الجانب التركي نحوهم عبر اللعب على الورقة الكرديّة المتأزمة بين أنقرة وواشنطن بسبب دعم الأخيرة لهم، الأمر الذي تسبّب بتباعد غير مسبوق وعلى كافّة المستويات حيث من المتوقّع أن يرفع الرئيس التركي اليوم لهجته تجاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يعمل على زعزعة استقرار المنقطة في ملفين أساسيين، الكيان الإسرائيلي والكنتونات الكرديّة.
تبعات أخرى ستكون بانتظار الملفات المتعلّقة بالأزمة السورية حيث وضع الرئيس التركي المعارضة السوريّة، وتحديداً منصّة الرياض، في عنق الزجاجة عبر التراجع عن الشرط المسبق المتمثّل بمصير الرئيس الأسد، الأمر الذي يجعل منصّة الرياض ومن خلفها السعوديّة الجهة المعطّلة للحوار السوري-السوري في مدينة جنيف السويسريّة. إذن تتّجه الأمور لبقاء الطرف السعودي هو المعرقل الوحيد لمسار المفاوضات السوريّة كون الموقف الأمريكي يسير نحو التحوّل الجزئي خشية خسارة أنقرة بشكل كامل. بعبارة أخرى، رمى الرئيس التركي بالكرة في الملعب الأمريكي والسعودي.
الموقف الأمريكي بدا مرتبكاً بعض الشيئ، فرغم التأكيد الإعلامي على تراجع إدارة ترامب وموافقتها على بقاء الأسد حتى 2021، إلا أنّ وزارة الخارجيّة الأمريكية أكّدت أن "لا مستقبل للأسد في سوريا بخلاف ما يتردّد في الإعلام عن اتفاق روسي-أمريكي على بقائه إلى عام 2021”.
ورغم الأصرار الأمريكي على التمسّك بمصير الرئيس الاسد، والبقاء في سوريا رغم الانسحاب الروسي، إلا أن الأمر في الواقع لا يعدو عن كونه اصرار ما قبل التراجع كون أمريكا فقدت كافّة اوراقها في سوريا، وأدركت اليوم أن الرهان على الأكراد في ظلّ الظروف الحاليّة بات خاسراً بامتياز. فكما تراجعت واشنطن، وكافّة من يقف بجانبها، عن خيار رحيل الرئيس الأسد عسكرياً ورضخت للحلّ السياسي، اليوم تتّجه نحو التراجع عن شرط الرحيل السياسي المسبق لترضخ لخيار الشعب السوري الذي سيحدّد من هو رئيسه.
في الحقيقة، تسعى أمريكا لتعزيز اوراقها التفاوضيّة لا أكثر، كون الانسحاب الأمريكي من الأراضي السورية أمر مفروغ منه، إلا أنّها لا تريد تقديمه بالمجّان، وما الحديث عن مصير الرئيس الأسد إلا في هذا الإطار، وأمّا فيما يتعلّق بالملف الكردي، فسنكون أمام سيناريو مماثل للخيانة الأمريكية تجاه أكراد العراق حيث قد يصبحون لقمة سائغة أمام الأتراك في حال إصرارهم علي اي توجّهات انفصاليّة.
لم تنجح الترويكا، روسيا وتركيا وإيران، في عزل أمريكا عن المشهد السوري بشكل كبير فحسب، بل تفوقت جولات السلام التي عقدتها الترويكا في أستانا وسوتشي على جهود الأمم المتحدة في جنيف بسبب الشروط المسبقة التي ترعاها أمريكا، الأمر الذي أنتج مناخاً دولياً منحازاً بعض الشيئ لعملية السلام التي ترعاها الترويكا.
يبدو أنّ قمّة سوتشي الثلاثيّة، ما قبل من مشاورات وما بعدها من نتائج، أرخت بظلالها أمناً واستقراراً في سوريا عبر وضع الأزمة على السكّة الصحيحة، سكّة المفاوضات والحلّ السياسي، بخلاف التوجّه الأمريكي والسعودي لزعزعة استقرار سوريا والدول المحيطة لتحقيق جملة من المصالح السياسيّة على حساب المنطقة بشكل عام، والشعب السوري على وجه الخصوص.
العالم