لِمَ لا تنقل واشنطن سفارتها إلى القدس؟!
د. عدنان منصور
واشنطن تنقل سفارتها إلى القدس. وما العجب في ذلك! وهل كانت لتفعل هذا لو أنّ هناك رجالاً على مستوى الأمة والقضية، يقفون وقفة شجاعة لمواجهة هذا الإذلال والتعدّي والاحتقار والاستخفاف بشعوب الأمتين العربية والإسلامية كلهما وكرامتهما وتاريخهما ونضالهما ومقاومتهما؟ !
هل كانت واشنطن بمقدورها أن تفعل فعلها القبيح الظالم المتعسّف، وهي تدوس على القرارات الدولية ذات الصلة بالقدس، غير عابئة ومكترثة بملوك وحكام وسلاطين وأمراء ورؤساء وزعماء، لو لم تكن تعرف مسبقاً مدى خنوع هؤلاء وخضوعهم لها، ومدى ارتباطهم بها، ومدى تخاذلهم وتآمرهم على قضايا الأمة كلها؟
ما كان ترامب ليفعل فعله الوقح بحق شعب فلسطين والأمتين العربية والإسلامية، لولا أنه خَبِر وبسرعة، معدن العملاء والمتواطئين وتجار القضية الفلسطينية والعربية وسماسرتها، ومنتهزي المناصب والزعامات من فلسطينيين وعرب ومسلمين، همّهم الأول الحفاظ على العروش والقصور والأموال والمراكز حتى لو اقتضى الأمر أن يصفعهم سيدهم على وجوههم، وأن يصفعهم الصفعة تلو الصفعة!
ما كان ترامب ليقرّر أن ينقل سفارة بلده إلى القدس، وهو الذي وعد به الدولة الصهيونية قبل وصوله إلى السلطة، لولا أنه يدرك جيداً، مدى ارتباط خونة القضية بـ«إسرائيل» وتنسيقهم معها، وغزلهم لها وتآمرهم معها، ومدى علاقاتهم باللوبيات اليهودية في العالم، لا سيما «الأيباك»، واندفاعهم بلا حدود وبكلّ وقاحة لطي صفحة قضية العرب والشعب الفلسطيني، وإطفاء شعلة المقاومة معها. وما الذي يضير ترامب في نقل سفارته إلى القدس بعد ذلك، وعنده اليقين أن غالبية حكام العرب، تخلّوا وتنازلوا عن فلسطين؟!
لِمَ لا تنقل واشنطن سفارتها، وهي تعرف مسبقاً، أنّ الأمتين العربية والإسلامية، لديهما من الإمكانات المالية والاقتصادية والطاقوية لو استُخدمت في مكانها الصحيح، واستُغلت في دعم قضايا شعوبهما لما تجرّأ الآخرون أن يعبثوا بكرامتهما. لكن عندما تغيب النخوة والكرامة الوطنية، فكل شيء يهون على الذئاب في غياب الرجال.
ما كان ترامب لينقل سفارته، لولا أنه يعرف حجم الردّ العربي والإسلامي، وحجم القمم العربية والإسلامية وهزالتها ومدى سخرية العالم من قراراتها، ومدى جدية مؤتمرات العرب والمسلمين، واجتماعاتهم وصدقيتهم وردود أفعالهم التي هي كالطبل الفارغ الذي يوصل صوته إلى بعيد… مؤتمرات واجتماعات وقرارات واحتجاجات وتنديدات تثير القيء في النفوس، خاصة عندما نسمع السلطة الفلسطينية «تحذّر» من أنّ ردّ الفعل الفلسطيني على نقل السفارة سيكون «حازماً وواضحاً»، لكن لم تقل لنا كيف؟! ليقابلها مواقف دول تتأرجح بين القلق والاستنكار والأسف والاستهجان.
تصريحات المنافقين، من تجار القضية، والردود التافهة الهزيلة على قرار ترامب ستعلو من هنا وهناك وبالذات من الذين ارتموا في أحضان واشنطن وتل أبيب، يأسفون وينتقدون ويحذرون بأبسط التعابير والكلمات التي تسيء للقضية أكثر مما تسيء لقرار واشنطن المشؤوم.
إنه زمن العار والذلّ والخنوع، يسطّره مهزومون صنّفوا أنفسهم عرباً غيارى على فلسطين، وما كانت فلسطين لتلقى على أياديهم إلا المآسي والويلات والخداع والتآمر. ولا عجب بعد نقل السفارة إلى القدس، أن نرى هؤلاء الممرّغة أنوفهم في الرمال، يتفرّجون على الصهاينة وهم يُحكمون القبض على فلسطين كلها وعلى القدس ويهدمون «ثالث الحرمين».
لم يأخذ ترامب أيّ اعتبار وأيّ حساب لردود الفعل للبلدان الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي البالغ عددها 57 دولة. لأنه يعلم حقيقة أنّ 19 دولة فقط من أصل 57 ليس لها علاقات دبلوماسية رسمية مع الكيان الصهيوني. وأنّ غالبية الدول 19 تقيم علاقات سرية أو علنية، سياسية وتجارية وأمنية وعسكرية وسياحية مع الدولة الصهيونية تحت عناوين مُظرّفة مختلفة، بحيث لم يبق على الساحة إلا دول قليلة ملتزمة بمواقفها الثابتة حيال قضايا الأمة وفلسطين، لا يتجاوز عددها أصابع اليد، كسورية وإيران ولبنان والعراق والباكستان والمقاومة الفلسطينية.
فما الذي تنتظره فلسطين من هؤلاء الزعماء الذين ابتليت بهم الأمة منذ عقود، ما عرفوا يوماً طعم الكرامة والعزة والإباء والوطنية والسيادة، ولو بحدّها الأدنى؟
فلسطين والأمة بانتظار صحوة توقظها من جديد، صحوة عربية وإسلامية لتصحيح المسار العربي وإعادة البوصلة إلى مكانها الطبيعي في زمن الردّة والمرتدّين، الذين نشأوا وترعرعوا في أحضان أسيادهم، وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا عبيداً لهم، يُملى عليهم ويُنفذِّون، يُؤمَرون ويخضعون، يُصفعَون ويركعون، يقودهم أسيادهم عند كلّ استحقاق صهيوني ويرضخون، وما نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس إلا وصمة عار في جبين هؤلاء، وواحد من هذه الاستحقاقات.
إنّ تصحيح المسار العربي له طريق واحد لا غير، لا يُعبّد إلا بالمقاومة وبكل أبعادها ولا شيء غيرها. وحدها المقاومة تبقى البوصلة الحقيقية لاسترجاع الأرض والحقوق للأمة كلها.