تيلرسون يوجه نقدا علنيا شديدا للسعوديّة..هل هذا الانتقاد «رسالة» أو تهديد؟
يَتحسّس المَسؤولون السّعوديون من أيِّ كلمةِ نَقدٍ مهما كانت "مُؤدّبة” تُوجّه إليهم، وسِياساتِهم الداخليّة، والإقليميّة، عندما تأتي من أطرافٍ سياسيّةٍ أو إعلاميّةٍ عربيّة، لأنّهم لا يَتقبّلون هذا النّقد، حتى لو كان مَوضوعيًّا، ويَعتبرونه تدخّلاً في الشّؤون الداخليّة، الأمر الذي قَلّص الأصدقاء وزادَ الأعداء، ولكن من يُتابع وسائل الإعلام الغَربيّة يَجد أنّها طافحة هذهِ الأيّام بالتقارير الإخباريّة والمَقالات التي تَتناول شُؤون المَملكة، وتَحرّكات رَجُلها القويّ الأمير محمد بن سلمان، الذي يُكرّس جميع السّلطات السياسيّة والأمنيّة والعَسكريّة والاقتصاديّة في قَبضته الحديديّة.
ريكس تيلرسون، وزير الخارجيّة الأمريكي، لا "يُجامل” المملكة ولا يَتورّع عن التحفّظ على بَعض سِياساتها ومَواقِفها على عَكس رئيسه دونالد ترامب، وعَبّر عن هذا المَوقف أكثر من مرّة من خلال توجيه اللّوم لها علانيّةً في عَرقلة أيِّ حُلولٍ للأزمة الخليجيّة ورَفضِها للحِوار مع قطر، وذهب إلى أبعد من ذلك عندما برّأ الأخيرة، أي قطر، من أي تورّط في الإرهاب عندما وقّع مع حُكومَتِها اتّفاقًا بمُكافحة الإرهاب، وتَجفيف موارده الماليّة والعَسكريّة، في وقتٍ كان رئيسه يَقول عكس ذلك، ويرُكّز التّحالف السعودي الرباعي على هذهِ التّهمة كدُرّة تاج استراتيجيّته المُقاطِعة لها.
وفي مُؤتمرٍ صحافيّ عَقده مع نظيره الفرنسي جان إيف لورديان في خِتام مُباحثاتهما في باريس صَعّد الوزير الأمريكي تيلرسون من لهجته الانتقاديّة للمملكة والأمير محمد بن سلمان تحديدًا، دون أن يُسمّيه، عندما وَصف سياساته الداخليّة والخارجيّة بـ”المُغامرة” و”التّهوّر”، وبَطريقةٍ غير مُباشرة مُغلّفة بالكثيرِ من الدبلوماسيّة، ولكن المَعنَى (بفتح النون)، والمعنِي (بكَسرِها) واضحٌ أيضًا.
نَشرح أكثر ونقول أن الوزير تيلرسون حثّ السعوديّة على تبنّي "نهجٍ مَدروس، وإمعان النّظر في سياساتِها إزاء المَسائل الإقليميّة”، وأكّد على تنامي القَلق في أوساط إدارته "حِيال انخراطِها في حرب اليمن، وسِياساتِها إزاءَ لبنان وقطر”.
الوزير تيلرسون استطرد أكثر في هذا المِضمار "فيما يَخص التّعاطي السعودي مع قطر، وكيفيّة إدارتهم (السعوديون) الحرب اليمنيّة، والوَضع في لبنان، أعتقد علينا تَشجيعهم على اتخاذ قرارتِهم بصورةٍ مَدروسَةٍ أكبر، وأن يُمعنوا النّظر أكثر في هذه الإجراءات وأن يأخذوا في الاعتبار كُل العَواقِب”.
قبل بِضعة أيّام خَرجَ الرئيس دونالد ترامب عن طَوعِه عندما طالبَ السعوديّة، وبلَهجةٍ غاضِبةٍ، رَفع حِصارها عن اليمن "فَورًا” والسّماح بِوُصول المُساعدات الإنسانيّة والمَواد التجاريّة دون عَوائقٍ لليمنيين.
تَعمّدنا في هذهِ الافتتاحيّة بالذّات أن نَنقلُ حَرفيًّا مُعظم ما قاله الوزير تيلرسون في مُؤتمره الصّحافي المَذكور، وهذا ليسَ من سِياسة كاتب الافتتاحيّة في صحيفة "رأي اليوم”، حِرصًا على الدقّة ودعم التّحليل والاستنتاجات بالوَقائع، لأن هذهِ التّحذيرات والتّوصيفات التي استخدمها عَلانيّةً، والمُراجعات التي طالبَ بِها، "غير مَسبوقةٍ”، وتَعكس "عدم رِضا” من الحَليف الأمريكي، ورئيس دِبلوماسيّته على الكَثير من السّياسات السعوديّة، وخاصّةً في لبنان (استدعاء الحريري وإجباره على قراءة خِطاب استقالته)، والتشدّد في الأزمةِ القطريّة (برفض الحوار كطَريقةٍ مُتّبعةٍ للحَل)، والاستمرار في الحَرب والحِصار في اليمن لِما يَقرُب من الثّلاثة أعوام.
السيد سعد الحريري يتواجد حاليًّا في باريس في زيارةٍ رسميّة، وحَرص قبل وصوله إلى فرنسا التي أرسلت وزير خارجيّتها إلى الرياض لإطلاقِ سراحه، والسّماح له بالسّفر، وفاجأ حُلفاءه السعوديين بسَحب استقالته كُليًّا، بذَريعة أن أعضاء مَجلسه الوزاري بما فيهم وزراء "حزب الله”، قَبِلوا بمَطالبه في "النأي بالنّفس″، وعدم التدخّل في شُؤون الدّول الأُخرى، ولعلّه بهذا المَوقف، يَشق "عصا الطّاعة” على حَليفه وكَفيله السعودي الذي أراد أن يَمضي قُدمًا في هذهِ الاستقالة، وبِما يُؤدّي إلى خلق أزمةٍ سياسيّةٍ في لبنان، وربّما الاشتباك سياسيًّا أو عَسكريًّا مع "حزب الله” وحَليفه ميشال عون، رئيس الجمهوريّة، لزعزعة استقرار لبنان والمِنطقةَ بأسرها، ولا نَستغرب أن يكون وزير الخارجيّة الفرنسي قد أطلع نظيره الأمريكي على تفاصيل وقائع احتجاز الحريري في الرياض، وتَعاطي القِيادة السعوديّة معه وإهانته.
الأمير بن سلمان اعتقد أن إنهاء الرئيس علي عبد الله صالح تحالفه مع حركة "أنصار الله” الحوثيّة سيُوفّر له تحالفًا يَحسم الحرب لصالح السعوديّة والإمارات في اليمن، لما يَملُكه الأخير من جيشٍ قويّ وجِهازٍ أمنيٍّ مُتطوّر، وشَبكة تحالفات قبليّة ضَخمة ومُتشعّبة، سَهِر على تأسيسه عندما كان رئيسًا للجمهوريّة لأكثر من 33 عامًا، ولكن إعدام الحوثيين للرئيس صالح بعد ثلاثةِ أيّامٍ من فَك ارتباطِه معهم، وعَقده صفقةً مع التّحالف السعوديّ تُلبّي شُروطه الأربعة، وأبرزها إخراجُه من قائمة العُقوبات الدوليّة، وإعطاؤه مَنصب سياسيّ مُهم (رئاسة الجمهورية مُجدّدًا)، وضَمان سلامَتِه وعائِلته، ودَفعة ماليّة ضَخمة، لتَسديد مُخصّصات أنصاره، بَدّد آمال الأمير بن سلمان في تَغيير مُعادلات القُوّة في اليمن لصالِحه.
السّؤال الذي نَنتظر، وغَيرنا إجابته، هو مَدى تَجاوب الأمير بن سلمان مع انتقادات تيلرسون ومُطالبته في إجراءِ مُراجعاتٍ تُغيّر نَهجه وسياساته وتَدفعه نحو "التأنّي” والمُرونة في الكَثير من الملفّات؟
لا نَعتقد أن الأمير محمد بن سلمان الذي يَصفه مُقرّبون منه بالاعتداد بالنّفس، والجُرأة في اتخاذ القرار، والتمسّك به وعدم التّراجع عنه، لا نَعتقد أنّه سيَتجاوب مع هذهِ الانتقادات، ولا نَستبعد أن تزيد من غَضبه على وزير الخارجيّة الأمريكي الذي يتّهمه بالقُرب من قطر وعلاقاتِه القويّة بها، وهي العَلاقة التي نَسجها عندما كان رئيسًا لشركة إكسون موبايل ينوات.
الأمير بن سلمان يَفتح عِدّة جبهات في آنٍ واحد، وحَركة إيقاعه سريعة، وهو يَعترف بذلك، وربّما لا يُعير رئيس الدبلوماسيّة الأمريكيّة أيَّ اهتمام، وربّما يدعو في صَلواتِه أن تكون نهاية تيلرسون كوزيرٍ للخارجيّة وشيكة، بعد تَردّد الكثير من الإشاعات التي تقول أن الرئيس ترامب يُريد الإطاحة به وإرساله إلى وكالة المُخابرات المَركزيّة ( سي أي إيه) مُديرًا عامًّا.
قرار ترامب بنَقل السفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القدس المُحتلّة، أضاف صُداعًا جديدًا للأمير السعودي الشّاب، لأن عليه أن يَختار بين الرأي العام العَربيّ الإسلاميّ الذي يَنتفض غَضبًا ضِد هذا القرار، وبين الحِفاظ على الحَد الأدنى من عَلاقات بِلاده التحالفيّة مع واشنطن، وتَجنّب إغضاب إسرائيل التي يُعوّل عليها كثيرًا كحليفٍ مُحتملٍ في مُواجهة إيران.
خيارات الأمير بن سلمان الحاليّة، والمُقبلة، سَتكون صعبةً بكُل ما تَعنيه هذهِ الكَلمة من مَعنى.
راي اليوم