الامام الحسن.. بين خذلان الأمة وغدر الشجرة الملعونة
* جميل ظاهري
قال الله عَزَّ و جَلَّ {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا}- الأسراء:60، حيث يقول المفسرون أن سبب نزول هذه الاية هي أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) رأى في منامه أن بني أمية يَنْزُون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، وأخبر الرسول (ص) المسلمين بأن بني أمية سيستولون على الحكومة الإسلامية ظلماً وعدواناً غاصبين بذلك حق أهل بيته (عليهم السلام) وهم ورثة الخلافة الحقَّة عنه (ص)، ثم قال (ص): "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه" - رواه عباد بن يعقوب، وأخرجه أبن حاتم عن يعلي بن مرة، وذكره الفخر الرازي عن سعيد بن مسيب في التفسير الكبير، وذكره السيوطي في تفسيره وجماعة كبيرة من المفسرين والمُحدثين ايضاً .
بعد استشهاد أمير المومنين الامام على بن طالب (ع) بسيف القاسطين والمارقين والمنافقين والخارجين عن دين الله سبحانه وتعالى، بويع الامام الحسن (ع) بالخلافة في الكوفة. مما أزعج "معاوية" الذي بادر الى وضع الخطط لمواجهة الموقف، وأرسل الجواسيس الى الكوفة والبصرة لتحريض الناس على الامام (ع) وإيجاد الفوضى حيث نجح في ذلك بفعل الاعلام الأموي المسموم والضال ما دفع بالكثير من "أصحاب" وأعداء الامام الحسن بن على (ع) للتخطيط والعمل على اغتياله إرضاءً لأبن صاحبة الراية الحمراء فبثوا الدعايات المسمومة والمغرضة دفعاً للانقلاب على الواقع والحقيقة ونصرة للشجرة الملعونة الخبيثة.
أدرك ريحانة الرسول (ص) الذي نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاده المفجع على يد معاوية بن أبي سفيان بدس سم قاتل وصله من ملك الروم, وللمرة الرابعة بواسطة جعدة بنت الأشعث زوجة الامام الحسن (ع)؛ أبعاد المؤامرة وكشف الجواسيس، فأرسل الى معاوية يدعوه الى التخلّي عن انشقاقه. وأرسل معاوية رسالة جوابية يرفض فيها مبايعة الامام الحسن (ع)، وتبادلت الرسائل بين الامام (ع) والطاغية الخارج على الدين والملة معاوية، فتصاعد الموقف المتأزّم بينهما حتى وصل الى حالة إعلان الحرب.
كان الخلاف القائم بين الامام الحسن (ع) وأبن هند آكلة الأكباد هو تفسير وتأويل الأخير في خروجه على إمام وخليفة زمانه وإغتصاب الخلافة المحرمة على الطلقاء بسند الأحاديث النبوية منها ما تقدم ذكره، كما حارب النبي الأعظم (ص) الكفار على التنزيل.
ظروف الكوفة آنذاك كانت بالغة الصعوبة والحساسية حيث تعيش اختلافاً كبيراً عن بقية الأمصار ذات الشعوب المتجانسة نسبياً في الجوانب الدينية والمذهبية والقومية، فانفردت الكوفة بخليط اجتماعي غير متجانس، وتركيب شعبي شديد التعقيد كانت متمثلة في الحزب الأموي، والخوارج ، والمذبذبين الشكاكين، وشرطة زياد المسمّون بـ"الحمراء"، حيث يقدر الطبري عددهم بعشرات آلاف مسلح ممن يسيل لعابهم أمام بريق الدينار والدرهم، وأصحاب المصالح! وكانت هذه التركيبة بحاجة لعقلية قادرة على التعامل معها بوعي وحنكة فائقين ولم يكن غير الامام الحسن (ع) قادر على إدارة كفة هذا الموج المتلاطم من الوضع الاجتماعي . ولكن هل هناك طاعة من قبل الأمة على الحرب والسلم؟!.. تلك الأمة التي طالما عرفت بالغدر والخيانة المتوارثة قبيلة وجاهلية حتى يومنا هذا .
يذكر المؤرخون أن جيش الامام الحسن (ع) بقي ينازل عدواً يعده خمسة وأربعين ضعفاً بالضبط ! فأين الكفاية لقمع فتنة الشام بالقوة ؟! ناهيك عن محاولات الخيانة والاغتيال المتعددة التي تعرض لها الامام الحسن عليه السلام حتى من أقرب أصحابه وأنصاره. كما إن سلطة الروم في ذلك الوقت كانت تتحين الفرص للإنقضاض على دولة الاسلام.
الظروف الحرجة التي وضع فيها الامام (ع) من خذلان الناصر وغدر الشجرة الخبيثة لم تعطه خياراً سوى التنازل الاضطراري عن الخلافة لفترة من الزمن ليعود بالنفع على الدين وأهله وبهذا الأسلوب تحققت بشرى الرسول الأعظم (ص):"إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به فئتين من المسلمين"- صحيح البخاري ج2 كتاب فضائل الصحابة ص1280 الحديث 3536 ـ سِيَر أعلام النبلاء ج3 ص251 إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى ص191 ـ أسد الغابة ج2 ص12 ـ تذكرة الخواص ص177 ـ الإصابة ج1 ص330 ـ مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ص227 ـ الصواعق المحرقة الباب العاشر ص137 ـ المعجم الكبير ج3 ح2590 ص33 ـ كنز العمال ج13 ح570 ص100 ـ ذخائر العقبى ص125 ـ مجمع الزوائد ج9 ص175 ـ البداية والنهاية ج8 ص17 ـ تاريخ ابن عساكر ج13 ص271 ـ مستدرك الصحيحين ج3 ص192 ـ جامع الأصول ج9 ح6562 ص33 ـ الاتحاف بحبّ الأشراف ص34ـ كفاية الطالب الباب97 ص340- 353.
عدم وجود الأنصار المخلصين وخذلان الأمة له وقلة الصحابة المنتجبين وكثرة عمليات الأغتيال التي تعرض لها من قبل عمال الطليق بن الطلقاء كما عاشها جده الرسول الأكرم (ص) له، رأى الامام (ع) بثاقب رأيه وتسديد السماء له أن الوقوف بوجه جيش الشام لم يكن من صالح الاسلام ولا من صالحه أو صالح أهل بيته وشيعته، وإن الخوض في معارك خاسرة واضحة المعالم مسبقاً ضرب من عدم حنكة القيادة وعدم التدبير ولئن انتصر معاوية في حربه هذه رسمياً لاستطاع أن يزيل الإسلام من أساسه ويقضي على الدين وعلى جميع المؤمنين الحقيقيين من شيعة الامام على (ع) تماماً، واستأصلهم من الوجود ، ولم يبق من الاسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه.
لم يلتزم معاوية ولا سائر ابناء ذوات الرايات في حكومة بني أمية، حتى بشرط واحد من تلك الشروط مع أنه وافق عليها في البدء وقال كلمته المشهورة بعدما صعد المنبر بعد حوالي ستة أيام من توقيعه على الصلح ومما قال "وإن الحسن بن على قد أملى علي شروطاً، وها هي تحت قدمي لا أفي بواحد منها" ! وهذا يدل على بطلان خلافته ، لأنه نقض العهود والشروط ! وكان آخر سيئاته أن نصب ابنه يزيداً الذي لا يشك أحد في أنه غير أهل لخلافة المسلمين المؤمنين الصالحين. بعد أن رفض تسليم الحكم للامام الحسين (ع) وواصل سب أمير المؤمنين (ع) ، ولم يسلم أحد من أهل بيت الامام على (ع) ولا من انصارهم وشيعتهم من بطش معاوية وحكام بنو أمية الذين جاءوا من بعده .
لكن بقيت عملية صلح الامام الحسن (ع) ورغم محاولات التحريف التي انتهجها بنو أمية ومن سار على نهجهم حتى يومنا هذا، هي البذرة المستمدة من صميم مصلحة الاسلام المحمدي الاصيل ومصلحة أهل البيت عليهم السلام، ومن الوحي ايضاً. وليعد الامام الحسن بن على عليهما السلام بعد أقل من قرن، الغالب المنتصر على الخصوم المغلوبين، المهزومين طوال التاريخ. بعد أن خطى (ع) هذه الخطوات الموفقة، والسياسة الصاعدة التي لا تبلغها السياسات، في صمت وتواضع واتئاد، وتحت ظل اصلاح الامة وابعادها من الانحراف وحقناً للدماء. والذي جسد كل ما للعظمة من معنى ليبقى الاسلام ونهج أهل البيت عليهم السلام مناراً وصرحاً صادحاً لكل الاحرار في العالم من مسلمين وغيرهم.