خفايا معضلة الإتفاق النووي: لماذا أيَّده بريجنسكي وعارضه كسينجر؟
محمد علي جعفر
لم يعد خفياً أن الإتفاق النووي الذي توصلت اليه مجموعة 5+1 مع إيران، كان وما يزال محط جدلٍ سياسي دولي كما أنه ما يزال محط جدلٍ داخليٍ أمريكي. ففي عهد الإدارة الأمريكية السابقة، سعى فريق البيت الأبيض لإثبات أهمية الإتفاق وإدخاله في خانة الإنجازات الأمريكية.
واليوم، وفي ظل العهد الأمريكي الجديد، يخرج الخطاب الأمريكي عن مسار اللغة التي انتهجها الديموقراطيون، إلى لغةٍ تتناقض في الأسلوب والأهداف. لغةٌ يُعبِّر عنها دونالد ترامب، على الرغم من تأثيراتها على السياسة الأمريكية ومصالح الأمن القومي الأمريكي. فبعيداً عن الإتفاق، لم تمر واشنطن في تاريخها بالوضع الذي تعيشه اليوم. أزماتٌ داخلية باتت حديث الإعلام حتى الغربي. تناقضٌ في السياسات، ليس بين الجمهوريين والديموقراطيين فحسب، بل داخل الفريق الواحد. لهجةٌ سياسية أمريكية ينتابها الضعف على الصعيد الدولي، يُديرها رجل البيت الأبيض الذ يصفه البعض بالجنون! وحين يأتي الحديث عن الإتفاق النووي، يبدو واضحاً أن التاريخ سيُسجِّل في طياته كيف أدخل هذا الإتفاق واشنطن في مأزق التناقض التاريخي الواضح في مصالح الأمن القومي الأمريكي. وهو ما يبرز من خلال مراجعة مواقف أهم الإستراتيجيين الأمريكين، والتي دلَّت على تناقضٍ جوهري في كيفية إدارة العلاقة مع إيران. فكيف اختلف زبيغنيو بريجنسكي وهنري كسينجر فيما يخص الإتفاق النووي؟.
إحتواء إيران: المشكلة الأمريكية!
على الرغم من اختلاف التكتيكات السياسية بين الفريق الحاكم للولايات المتحدة اليوم وبين الفريق السابق، لكن أولوية المصالح الأمريكية لا تتغيَّر. وهو ما يعني أن إيران اليوم ما تزال عدو أمريكا الأول، كما كانت عليه إيران بالنسبة لأوباما. لكن الحقيقة تكمن في اختلاف وجهة النظر ليس في التعاطي مع إيران فحسب، بل في كيفية إدارة أمريكا لأزماتها في المنطقة، وكيفية احتواء الإنتصارات الإيرانية! وهو ما جعل المُخطط الأمريكي في حالةٍ من التخبُّط، حول كيفية إدارة نتائج التعاظم الإيراني.
بريجنسكي مؤيد الإتفاق النووي!
رحل بريجينسكي مؤيد الإتفاق النووي، وصاحب نظرية تبديل التمدد العسكري ضد روسيا بالتمدد الديني! مُصمم الإستراتيجية الأمريكية في عهد كارتر، وعضو اللجنة الإستشارية لأوباما فيما يخص الإتفاق النووي، كان قد أشار وبصراحة في شرحه لنظرية التمدد الديني، الى أهمية خلق واقعٍ قد يُساهم في الحد من الطموح الروسي عبر غض الطرف عن قوةٍ جديدة صاعدة ومنافسة. صدَّق بريجينسكي حينها ما يعتقد به المُنظر الأمريكي دوماً، أن واشنطن قادرة على جعل العالم لعبة الشطرنج الخاصة بها. أخطأ بريجنسكي في حساباته، ودخلت أمريكا في دوَّامة الصراع مع إيران. صراعٌ لم تستطع واشنطن إدارة نتائجه، ولا تأمين واقع احتواء إيران من خلاله.
كسينجر المعارض!
على عكس بريجنسكي، الذي سارع الى إرسال برقية تهنئة ودعم الى صديقه الرئيس باراك أوباما، بعد صدور بيان اتفاق لوزان، تساءل هنري كيسنجر السياسي العجوز في مقالٍ أحدث جدلاً واسعاً حينها، كتبه بالشراكة مع جورج شولتز، حول مصلحة الأمن القومي الأمريكي من الإتفاق النووي مع إيران. صَدَق كسينجر في توقعاته، وأطاح بعقله الدبلوماسي الواقعي، بقراءات بريجنسكي المبنية في أغلبها على اليقين الدائم بالعظمة الأمريكية. المقال الذي حمل عنوان "النتائج الإستراتيجية للإتفاق النووي الإيراني” ونشرته "وول ستريت جورنال” خلال شهر نيسان/ أبريل 2015، أفصح عن المخاطر التي يحملها الإتفاق على أمريكا. وفنَّد المكاسب التي جنتها إيران من وراء الإتفاق. اعتبر كسينجر حينها أن أوباما قايض تعاوناً نووياً مؤقتاً بالتغاضي عن هيمنة أيران وما يعنيه ذلك من خطر على الأمن القومي الأمريكي.
كيف صدق كسينجر؟
أحسنت إيران إدارتها لفرصة الإتفاق النووي. ولم تسمح بجعلها نقطة ضغفٍ تجاهها. بل كان للإتفاق وآثاره عدة نتائج نشير لها من الموقع الذي يُسبب ضرراً للمصالح الأمريكية:
أولاً: وفَّر الإتفاق ضمانات تُمكّن إيران من متابعة أنشطتها النووية شرط التحقق منها.
ثانياً: ساهم في إلغاء أو تعليق مجموعة واسعة من العقوبات الإقتصادية التي كانت مفروضة عليها، بما في ذلك العديد من العقوبات الأميركية وحظر تصدير النفط لأوروبا.
ثالثاً: ساعد ومن خلال حسن الإدارة الإيرانية لسياستها الخارجية، في توسيع رقعة النفوذ الإقليمي لطهران، عبار بناء شبكات سياسية استراتيجية رسَّخت الدور الإيراني كواقع في المنطقة.
رابعاً: تحوز إيران اليوم على واقع جيوعسكري وسياسي يُمكنها من فرض العديد من الأوراق، على الساحة السياسية للشرق الأوسط. وهو ما يمكن إضافته على ما تمتلكه طهران من مواقع متقدمة حول الممرات المائية الإستراتيجية في الشرق الأوسط وقدرتها على التحكم بواقع هذه الممرات وما يعنيه ذلك من معادلات.
إذاً، قد يصدق البعض في حديثهم، في أن أوباما أخطأ في فهم العقل الإيراني مراهناً على وقوع إيران في فخ المضي قُدماً في جعل التفاوض سمة العلاقة بين أمريكا وإيران وبالتالي إدخال طهران في نفق المحادثات حول كل شيء. لم يُخطئ أوباما في فهم العقل الإيراني فقط، بل أخطأ في تقدير الحسابات الإيرانية. حساباتٌ ظنها مستشاروا أوباما أنها على قياس حسابات الدول العربية.
رحل زبيغينو بريجينسكي وبقي هينري كسينجر. استمعت أمريكا لمن رحل، والعجوز الباقي يعيش في حسرته. أقفل الإتفاق النووي عصر أمريكا الذهبي. وَقعت واشنطن في الفخ الإيراني. إتفاقٌ حصل لمرةٍ واحدة، كانت حين أرادتها إيران وليس أمريكا. إتفاقٌ أدخل النظام الأمريكي بمُعضلة التناقض في تحديد المصالح. إتفاقٌ أرسى واقعاً سيكون أقل خسائره لو أُلغي، زوال المصداقية الدولية لواشنطن وبالتالي بداية الصراع الغربي الأمريكي. فهل يُقرر ترامب إدخال أمريكا في حرب استنزافٍ محليٍ ودولي؟.