المقامرة الأميركية الأخيرة في سوريا والعراق
مصطفى السعيد
تحركات عسكرية وسياسية متلاحقة شهدتها المنطقة خلال الأيام القليلة الماضية، تشى بتغييرات فى التحالفات السياسية والعسكرية، وبروز تحالف رباعى يشمل إيران وتركيا والعراق وسوريا لمواجهة ما تراه الدول الأربع تدشينا لدولة كردستان بدعم أمريكي وإسرائيلي، فى الوقت الذي اقتربت فيه قوات حرس الثورة الإيرانية من القوات الخاصة الأمريكية قرب مدينة دير الزور السورية الإستراتيجية..
وهو ما يحمل مخاطر مواجهة عسكرية شرسة بين قوات دولتين تتوعد كل منهما الأخرى طوال أربعة عقود شهدت الكثير من التهديدات والعقوبات والحروب غير المباشرة. كانت إيران قد بثت فيلما عن إعدام داعش للمقاتل محسن حججى أحد رجال حرس الثورة الإيرانية فى سوريا، وتوعد العميد حسين سلامى نائب قائد حرس الثورة برد قاس ضد داعش فى سوريا، لتبث القنوات الإيرانية لأول مرة مشاهد مصورة لتقدم كتيبة لحرس الثورة وهى تقصف معاقل داعش قرب مدينة دير الزور السورية.
لم يكن محسن حججي هو أول مقاتل إيراني "يستشهد" على ايدي داعش فى سوريا، فقد سبق أن أعلنت إيران عن "استشهاد" أكثر من عشرة قادة ميدانيين فى معارك عدة داخل سوريا، فما سر الإعلان عن وجود كتيبة لحرس الثورة لأول مرة فى هذا التوقيت؟
يمكن أن نجد الإجابة فى التحركات العسكرية الأميركية شمال شرق دير الزور، حيث نقلت الطائرات الأميركية قوات من مجموعات مسلحة سورية دربتها فى الأردن، وتسمى «مغاوير الثورة» وأخرى تسمى «جيش أسود الشرقية» من محيط قاعدة التنف الأميركية جنوب سوريا إلى المنطقة التى يسيطر عليها الأكراد فى الشمال، إلى جانب نقل عربات مدرعة ومدفعية وصواريخ مع وحدات من القوات الخاصة الأميركية إلى الحسكة والشدادى شمال شرق دير الزور، وهو ما أثار مخاوف كل من إيران وتركيا من إقدام الولايات المتحدة على التوغل فى الأراضى السورية لقطع الحدود السورية العراقية، مستعينة بالقوات الكردية المسماة «قوات سوريا الديمقراطية».
وسبق هذه التحركات إعلان رئيس منطقة كردستان العراق مسعود بارزانى عن إجراء استفتاء لانفصال كردستان عن العراق الشهر المقبل، وتعثرت المباحثات بين العراق وقادة كردستان حول تأجيل هذه الخطوة، كما نشرت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية أن وفدا من قيادات كردية زار "إسرائيل"، وطلب دعمها فى الإستقلال، والتقى رئيس الوزراء الإسرائيلى نيتانياهو مع وفد من الكونجرس زار تل أبيب الأسبوع الماضي، وبحث معه ضرورة دعم "إسرائيل" والولايات المتحدة لانفصال الأكراد، وقال نيتانياهو ــ فى تصريحات هى الأولى من نوعها ــ إن "إسرائيل" ستدعم الأكراد فى إقامة دولتهم، وستسعى إلى إقناع واشنطن بهذه الخطوة الضرورية، لمنع التواصل بين إيران والعراق وسوريا ولبنان، ووصف الأكراد بأنهم «قريبون من ثقافتنا وقيمنا».
جاء الرد من جانب إيران وتركيا بزيارة رئيس أركان الجيش الإيراني إلى تركيا، هى الأولى من نوعها منذ الثورة الإيرانية عام 1979، والتقى اللواء محمد باقرى نظيره التركى ورئيس الوزراء والرئيس التركى أردوغان، وأمضى مع أردوغان 50 دقيقة، بحث فيها التعاون والتنسيق العسكرى بين الجيشين الإيرانى والتركي، وتنتظر أنقرة زيارة مماثلة من رئيس الأركان الروسي، كما يزور أردوغان طهران قريبا، وهو ما يعكس مدى قلق تركيا وإيران من التحرك الأميركي الإسرائيلى لدعم استقلال كردستان.
تحقق الورقة الكردية لكل من الولايات المتحدة و"إسرائيل" أكثر من فائدة، من بينها وجود قواعد عسكرية ومخابراتية لهما تطل مباشرة على إيران التى تصنفها الدولتان بأنها العدو الأول، إلى جانب قطع طريق الحرير الذى يمتد من الصين إلى أوروبا، والذى من شأنه أن يكون من أهم طرق التجارة العالمية، ويضعف دور وجدوى الأساطيل الأمريكية فى خطوط التجارة البحرية، ويربط أوروبا بأسواق آسيا المزدهرة، والتى ستعتلى عرش الاقتصاد العالمي، بينما يستمر تهميش وإضعاف الهيمنة الاقتصادية الأمريكية..
لقد كانت تركيا هى رأس الحربة فى التحالف الأمريكى ضد سوريا والعراق وإيران، لكن تقلبات ميدان المعارك والسياسة دفعت تركيا لأن تخرج من التحالف الأمريكي، وتلعب لحسابها بالاشتراك مع قطر وجماعة الإخوان، لكن هاهى تنتقل خطوة أخرى إلى الجبهة المقابلة، ردا على إقدام الولايات المتحدة على دعم الأكراد سياسيا وعسكريا.
سيكون لهذا التحول تداعياته المؤثرة على موازين القوى فى المنطقة، وستكون القواعد الأميركية الصغيرة المنتشرة فى الأراضى الواقعة تحت سيطرة الأكراد فى سوريا محاصرة من جميع الجهات، وبدلا من أن تكون تركيا خط إمداد رئيس للقوات الأمريكية، ستكون مصدر قلق وتهديد لها، كما ستزداد الخلافات التركية الإسرائيلية، بما يعزز من قوة ووجود التحالف الروسى الإيرانى السوري، وفى هذا السياق رفعت تركيا تحفظها على مشاركة الحشد الشعبى العراقى فى تحرير تلعفر العراقية ذات الأغلبية التركمانية، مثلما أنهت تحفظها على وجود كتائب لحرس الثورة الإيرانية قرب حدودها.
هكذا يبدو أن الولايات المتحدة مقدمة على مخاطرة كبيرة باللعب بالورقة الكردية الضعيفة، والتى يصعب أن تحقق الكثير إلا بتكثيف الوجود العسكرى الأميركي المباشر فى المناطق الكردية، وهى مخاطرة سياسية وعسكرية قد تؤدى إلى هزيمة أكثر ثقلا من خروجها من العراق.