نصرالله والمسافة بين الاعتراف بالنصر وبأسبابه ونتائجه
ناصر قنديل
عرض الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطاب النصر في ذكرى حرب تموز لمجموعة من القضايا المنهجية في تقييم تجربة حزب الله كعنوان لخيار المقاومة في لبنان والمنطقة، وعدد من القضايا والعناوين السياسية الراهنة، وفي القضايا المنهجية أدار سجالاً فكرياً، متفادياً تسمية الجهات التي يقصدها، مع التيار الدولي والإقليمي واللبناني المتعاظم، الذي يسجل اعترافه بانتصار حزب الله.
تيار يحاول تحاشي الاعتراف بأسباب ومعاني هذا النصر، أو تشويهه وتحوير مضامينه عن سياقها الطبيعي، وربما محاولاً توظيف الاعتراف بالنصر للترسمل في شنّ حرب مفاهيم ضدّ الحزب ونصره، وما يمثلان على مستوى قوى المقاومة كفكر ومفهوم وخيار. وفي طليعة هذه الحرب تصنيع سلة أهداف افتراضية يربط بها النصر وتخلق حولها العداوات والحسابات والحساسيات المفتعلة.
أول كشف الحساب في حساب السيد نصرالله هو التسلسل المنطقي لسياق الاعتراف لمعنى تعاظم قوة حزب الله، العبارة التي يستخدمها الجميع للدلالة المختلفة الأوجه على نصره، من «الإسرائيليين» وبعض المحلّلين الدوليين والعرب واللبنانيين، ليأخذهم إلى معادلة تستدعي حكماً الاعتراف بأنّ هذا يعني قولهم إنّ حرب تموز قد فشلت، فقولوها بصراحة إذن، طالما قلتم العكس في حينها، فقولوا اليوم إنّ حرب تموز قد فشلت بالعبارة الواضحة، لأنّها هدفت إلى ما هو أهمّ من الإضعاف وقد زاد حزب الله قوة باعترافكم اليوم، بينما كانت الحرب تهدف لسحقه، وليس شيئاً ثانوياً أن تقولوا ذلك بوضوح وبلا التباس، فمنه يمتلك كلامكم عن تعاظم قوة حزب الله معناه، وعليه ينبني سقوط خطاب بُني على اعتبار خطر حرب جديدة تشنّها «إسرائيل» على الحزب ولبنان واردة، طالما أنّ حرب تموز فشلت في ظلّ قوة أقلّ، فكيف ستخاطر «إسرائيل» بمثلها في ظلّ القوة الأعظم؟ ومن هاتين، يأتي الاعتراف بأنّ منظومة التحريض ضدّ حزب الله منذ العام 2000 وتحرير الجنوب، قد فقدت معناها.
فالاعتراف بفشل حرب تموز والعجز عن تكرار «إسرائيل» لمثلها يسقط نظرية قامت على اعتبار وجود سلاح حزب الله عبئاً على لبنان يستجلب حروباً لا طاقة للبنان واللبنانيين عليها، وسقوط هذه المنظومة يتلازم مع سقوط منظومة الخصومة للسلاح ولحزب الله وللمقاومة، قبل التحرير ومحورها الجواب عن سؤال، أيّهما الأجدى لتحقيق التحرير رهان المقاومة أم رهانات الآخرين من استراتيجية الصمت والانتظار إلى استراتيجية التفاوض، وقد خبرهما لبنان معاً بالفشل المتمادي وتضييع السيادة، بينما خبر المقاومة وكان القطاف هو التحرير.
مَن لا يملك شجاعة الاعتراف بهذه الصراحة بتسلسل انتظام استنتاج تعاظم قوة حزب الله، بمعزل عن تفسيره للأسباب، منافق في اعترافه بتعاظم القوة والنصر، فكلامه سياسي، انحناءة أمام عاصفة ساطعة لمحاولة التسلل للنيل من مضمون الحقيقة التي يدّعي الاعتراف بها، ومَن لديه نقطة ضعف في هذا التسلسل فليبيّنها كذريعة للتهرّب والتملّص من الاعتراف الكامل، بحلقات هذه السلسلة المترابطة، أما مَن يستكمل الاعتراف بالاعترافات المترابطة به عضوياً، فعليه أن يقرّ بأننا أمام منهج يربح وتثبت صوابيته خلال أربعة عقود مقابل منهج يسقط ويفشل في مقاربة الأحداث والتحديات نفسها، ففي عقدي ما قبل التحرير كان السجال حقيقياً حول جدوى وفعالية وصدقية خيار المقاومة في صناعة التحرير، سواء بنسبته لأهداف غير التحرير، مرة لتعزيز مكانة سورية التفاوضية ومرة لتعزيز وضع إيران الإقليمي، أو بالتشكيك في قدرته على الإنجاز، وبعدما ثبت بطلان التشكيك في صدقية الهدف ومصداقية القدرة، صار السجال حقيقياً أيضاً حول جدوى سلاح المقاومة ودوره في مواجهة خطر العدوان أو خطر الإرهاب، وفي القضيتين قيل بوضوح إنّ هذا السلاح جاذب للمصائب وسبب للكوارث، وها هي النتائج واضحة صارخة باعتراف المعترفين بتعاظم قوة حزب الله، بأنه سلاح يحمي ويردع، ويقوى.
الاعتراف بهذه السلسلة الثانية من المفاهيم تعني اعترافاً بأنّ الأمر ليس مقارنة بين حذاقتين، أو بين خطتين، أو بين مصدرَيْ تسليح وتمويل، بل بين مشروعين ينطلقان من قراءتين مختلفين للتحديات والأهداف والوسائل، والذين خاصموا حزب الله، خلال العقود الأربعة هم أنفسهم، دعاة نهج التفاوض ودعاة نهج إلقاء السلاح، ودعاة التسليم بسقوط سورية، ودعاة التسليم بالديمقراطية على صهوة الربيع العربي القطري والسعودي، وبالألوهية المطلقة للأميركي، وقضيّتهم دائماً الشكوى من تخاذل ينسبونه للأميركي تارة ولـ»الإسرائيلي» تارة وللسعودي تارة، في عدم العناد والثبات كما تفعل إيران وروسيا، تهرّباً من الإقرار بحقيقة أنهم ينتمون لمشروع مهزوم، لأنه يتهرّب من موجبات يدرك أنها حقائق لا يمكن الهروب منها، فيحتال على جوهر الصراع مع «إسرائيل» ويهزأ من فكرة تحرير فلسطين، ويسخّف ما يسمّيها باللغة الخشبية التي تؤمن ولا تزال بوجود قضايا كبرى تستحق التضحية لأجلها وخوض الحروب دفاعاً عنها، ولو دققوا بما أنفقته دول الخليج الفارسي ( الفارسي ) لإسقاط سورية وحدها، أو لاسترضاء أميركا في حربهم الخليجية، ودرجة العناد إلى حدّ التوحّش في حرب اليمن، لاعترفوا بأنّ الأمر ليس في درجة الدعم ولا في درجة العناد، بل في صوابية المشروع المنتصر وصدق ومصداقية أصحابه، وخيبة المشروع المهزوم وانتهازية أصحابه ووصوليتهم ونفاقهم.
مَن يملك شجاعة الاعتراف بالسلسلتين، يستحق التقدير بشجاعة النقد الذاتي والوقوف على ضفة البحث عن الحقيقة، بربط النصر وتعاظم القوة بسياق انتصار مشروع عابر للقرنين العشرين والحادي والعشرين، وربط هذا النصر بصدق أصحابه ومصداقية مواقفهم، ليصير السؤال عن الأهداف الحقيقية للمقاومة منزّهاً عن الفئوية والطائفية. فالمقاومة لم تستثمر ولن تستثمر نصرها في التحرير ولا في الردع ولا في الحرب على الإرهاب ولا في تطهير لبنان منه، ولا في الوقوف مع قيامة سورية حتى تعافيها، وها هي تتعافى، في تصفية حساب مع خصومها المحليين، ولا في نيل أو طلب مكاسب سلطوية لحزب أو طائفة، ولا يؤرقها إلا كيف تستثمر هذه الانتصارات لتصليب النسيج الوطني حول خيارها بصفته خياراً لأوسع اصطفاف وطني وقومي في مواجهة مَن يُجمِع اللبنانيون والمشرقيون والعرب، على اعتبارهم أعداء، ولو إعلامياً على الأقلّ، فقيمة الانتصارات الميدانية تفعل فعلها على جبهة الأعداء، أما قيمتها السياسية فليست بالحصول على مكاسب سيحقق أكثر منها مفاوضة معكسر الأعداء على مشاريع سلطوية بحجم المنطقة، مقابل وضع خيار المقاومة على الطاولة، وعندها لن يبقى لخصوم المقاومة دور ولا مكان ولا مكانة، حتى حيث يتوهّمون أنهم ثوابت. لكن قضية المقاومة ليست هنا، بل بأن تستجلبهم إلى الالتفاف حول خيارها والمشاركة بعائدات نصرها، وإفهام العدو بأنّ المقاومة التي تتعاظم قوتها العسكرية تتعاظم قوتها السياسية والشعبية، وأنّ الرهان على تفتيت جبهتها الداخلية صار في عالم الأوهام، ومَن يرفض هذه الدعوة يقول شيئاً واحداً، إنه بكامل وعيه قرّر أن يكون محور رهان العدو على إضعاف ظهر المقاومة، بعدما فقد العدو سبله للنيل منها، وكلّ سجال مع المقاومة هنا هو مجرد تقديم أوراق اعتماد للعدو ليس إلا. وكلّ كلام عن تعاظم قوتها هو مِن باب التحذير للعدو لا الاعتراف للصديق.