العوامية: «كُثبان الوهابية» تجتاح السور
خليل كوثراني
بعد 90 يوماً من الحصار، اجتاحت القوات السعودية حيّ المسوّرة التاريخي في العوامية لتسوّيه في الأرض. التشفي والانتقام كانا حاضرين في الهجوم الهمجي الذي ذهب ضحيته أكثر من 30 مواطناً.
«يقدَّر عمر بناء المسوّرة بأكثر من ثلاثة قرون، أما بيوتها فيراوح عددها من 160 إلى 180 بيتاً، جميعها مبنية بالطين والحجارة، وتتميز بتلاصقها الشديد، وبتصميماتها المراعية لظروف المناخ والبيئة، وبطراز معمارها العربي الأصيل، الذي يتمثّل في مجموعة العقود والنقوش والزخارف والأقواس الإسلامية التي تزين أفنيتها وجدرانها الداخلية. أما أبوابها الخشبية، فهي قطع فنّية رائعة الجمال، تزخر بالكتابات القرآنية والنقوش العربية».
بهذه الكلمات يصف زكي علي الصالح، في كتابه «العوامية: تاريخ وتراث»، الذي يوثق لماضي بلدة العوامية ولمنطقة «الديرة» تحديداً، وسط البلدة القديمة، أو ما يعرف بـ«حيّ المسورة» التاريخي. والمسوّرة، بحسب الصالح، مأخوذة من كلمة السور، وهو سور بناه العواميون الأوائل تفادياً للكثبان الرملية التي كانت تعصف عادة بسكان الجزيرة العربية، من دون أن يتوقع هؤلاء أن رمال الصحراء ستكون زائراً لطيفاً مقارنة بمن سيستبيح «الديرة» بعد قرون. بعد اليوم، وصفُ زكي علي صالح للعوامية ومسورتها، وصورها التي وثقها كتابه، لن تكون سوى مرجع تاريخي لماضي البلدة العريقة، بعد أن أحالت همجية القوات الحكومية حيّها التراثي ركاماً متناثراً، واستحال عمرانها العتيق، بفعل القصف والجرف، أثراً بعد عين.
كل النداءات التي أطلقتها الأمم المتحدة عبر مفوضيتها السامية لحقوق الإنسان، على مدى الأسابيع الماضية، للحؤول دون هدم الحي التاريخي، لم تلقَ آذاناً صاغية لدى وزارة الداخلية السعودية. بقيت الأخيرة، إلى ما قبل اقتحام قواتها كامل الحي التاريخي، مسكونة بروح الانتقام والتشفي من منطقة «ذنبها الذي لا يغتفر» أن خرج منها معارضون محتجون نشطوا في تظاهرات دعا إليها الحراك السلمي عام 2013، كانت العوامية منطلقاً لها، وحاضنة لزعيمها المحلي، نمر باقر النمر، الذي أعدمته السلطات مطلع العام الماضي.
منذ 10 أيار الفائت، حوّلت وزارة الداخلية بلدة العوامية إلى ساحة حصار وحرب حقيقية، تحت حجج متضاربة ومتناقضة. ففي البداية، رفعت السلطات شعار التحسين العمراني للحي القديم لتستبدله بذريعة وجود مسلحين يختبئون في حي المسورة. وإمعاناً في المنطق الانتقامي، سرعان ما وسّعت الحكومة دائرة عملياتها مستغلة الأوضاع الأمنية، فطاول استهدافها بلدات ومناطق مجاورة، عبر ضرب نشطاء سياسيين ومدنيين وتنفيذ عمليات دهم واغتيالات خارج العوامية، وإعدام لعدد من النشطاء في سجونها.
حتى الآن، لا إحصائيات دقيقة لعدد ضحايا العملية التي استمرت ثلاثة أشهر متواصلة. إلا أن نشطاء محليين تحدثوا إلى «الأخبار» أفادوا بأن «عدد الشهداء يفوق الـ30، ولا تزال بعض الجثث مرمية على الأرض». وأفاد المصدر بوجود «شهيدين اليوم (أمس)، أحدهما طفل (سجاد محمد أبو عبد الله) قضى متأثراً بجراحه، وآخر أُعلن اسمه (أحمد المحاسنة)، كان قد تعرض لطلق ناري قبل أيام في سيهات (بلدة تقع في ساحل محافظة القطيف)، وقبلهما شُيِّع اثنان من كبار السن كانا قد أصيبا بإطلاق النار الهمجي».
ويجمع الذين تحدثوا إلى «الأخبار» من نشطاء وسكان، على طابع «الانتقام والاستعلاء والطائفية» في تعاطي النظام مع منطقة القطيف عموماً، والعوامية بنحو أخص. وتتفاوت ردود الفعل المحلية تجاه ما جرى ويجري في المنطقة، وإن كانت حالة الغضب والشعور بالغبن هي ما يتشاركه الناس في شرقي الجزيرة العربية هذه الأيام. يستشهد هؤلاء بفيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي قبل ساعات، يظهر عدداً من الجنود وهم يحتفلون بالرقص أمام أحد المساجد في حي المسورة طاوله الدمار، مطلقين عبارات طائفية. ويظهر الفيديو بوضوح أن المبنى المقتحم هو المسجد المعروف باسم «مسجد الفتية»، وليس حسينية كما زعم مصور الفيديو، وهو أحد جنود ما يسمى «قوات الأمن الخاصة» التي دخلت في اليوم الـ78 للحصار دعماً لـ«قوات الطوارئ» التي تعثرت في إنهاء مهمتها باكراً.
«مقاومة» السكان
إلا أن البعض يهمس ساخراً من قوات «لم تستطع أن تحقق نصراً في اليمن جنوباً، فاستدارت شرقاً، بحثاً خلف نصر موهوم في أزقة حي سكني صغير، تأخر الحصول عليه مدة ثلاثة أشهر بفعل مقاومة شبان الحي الذين أهانوا هيبة الداخلية وقوات الطوارئ، في سابقة أمنية». الحديث عن «مقاومة عنفية» يرفضه بنحو قاطع أكثر من مصدر رسمي في الحراك، بمختلف تياراته وأجنحته، إذ أكدوا جميعهم جازمين أن لا أحد يغطي أو يدعم «أو حتى يوافق» على أي شكل من أشكال العمل العنفي، التزاماً بأجندة الحراك المطلبي وتوجيهات المرجعيات الدينية المحلية الذين يملكون نفوذاً واسعاً في المنطقة. لكن مصادر مطلعة تؤكد معلومات «الأخبار» حول وجود حالة احتجاجية فردية مارسها بعض الشبان داخل المسورة بقرار فردي من الذين تمسكوا برفض الخروج من منازلهم، معتبرين إخراجهم «تعدياً لا يحتمل»، وذلك بأسلحة بدائية أبرزها قنابل المولوتوف المعدة يدوياً وصنع العوائق عند مداخل الأزقة أمام تقدم المدرعات والجرافات.
تجدر الإشارة هنا إلى أن معظم هؤلاء الشبان ينتمون إلى تيارات على مسافة عقائدية من إيران، وغالبيتهم من المتأثرين بنمر باقر النمر (الذي لا يمكن ربطه بطهران بأي حال)، على عكس التهم الرسمية الجاهزة التي توجه إليهم بالارتباط بطهران عقائدياً وتنظيمياً، وهو ما لا وجود له على أرض الواقع، وفق المعلومات.
ويشرح مصدر لـ«الأخبار» أن الشبان المعتصمين في حي المسورة ليسوا كذلك من الجماعة التي كانت على علاقة وطيدة بنمر النمر، فهم «تأثروا به واعتبروه رمزاً لهم فحسب». وبعض المعتصمين هم من المطلوبين بتهم على خلفية نشاطهم السلمي المعارض أيام الاحتجاجات المطلبية، ولم يجدوا في سياسات السلطات المعهودة ما يشجع على تسليم أنفسهم، خصوصاً أنهم شاهدوا إعدام رفاق مسجونين لهم في الآونة الأخيرة، من بينهم أربعة نشطاء أعدموا في تموز الماضي.
هذه المخاوف، تخطاها ثلاثة من المطلوبين في العوامية، سلموا أنفسهم تباعاً في الأيام الأخيرة، استجابة لوساطات وجهاء محليين وبعد إعطائهم وعوداً بتسوية أوضاعهم، فيما بقي مصير المطلوبين الآخرين مجهولاً بعد سيطرة القوات الحكومية على كامل العوامية في الساعات الأخيرة.
وتروي مصادر لـ«الأخبار» وقائع ما جرى في الأيام الأخيرة، حيث إن حسم عملية دخول الحي (بعد 90 يوماً على العملية)، تطلب من جانب السلطات تعزيز قواتها بنحو كبير في اليوم الـ78 للحصار، حين باشرت «حملة جديدة وضخمة لدعم القوات الموجودة في العوامية». واستدعت «عشرات الجنود لتعزيز قوات الطوارئ، إضافة إلى مدرعات جديدة». وتضيف المصادر أن التطور الأبرز كان إدخال «قوات الأمن الخاصة لأول مرة، بمدرعاتها وأسلحتها الثقيلة ومدافعها، ما حول العوامية إلى ما يشبه ساحة حرب حقيقية».
وأفاد مصدر آخر بأن الأوضاع في العوامية لا تزال متوترة، وأن السلطات تغلق مداخل رئيسية وتفرض طوقاً أمنياً محكماً على البلدة، يترافق ذلك مع حالة غضب واسعة بين صفوف الأهالي الذين ينفذون الاحتجاجات باستمرار، ويُحرقون الإطارات المشتعلة، خصوصاً بعد مشاهدتهم للقصف الأخير قبل دخول السلطات حي الديرة، وبعد فيديو الجنود المتضمن عبارات طائفية عند مسجد المسورة، والذي انتشر بين الناس مأججاً حالات الغضب.
جرح غائر
بعد 90 يوماً من الهجوم على العوامية، كان للسلطات ما أرادت، ولو في وقت متأخر، إلا أن المؤكد يبقى عدم اقتصار ما أقدمت عليه الحكومة عند هذا الحد. فللحادثة ذيولها الداخلية والخارجية التي ستلاحق أصحاب القرار وستلقي بظلالها في مقبل الأيام. في الداخل، فتح النظام السعودي جرحاً آخر يزيد الهوة القديمة بينه وبين شرائح من شعبه، بما هو أبعد من القضايا الحقوقية للسكان المتضررين والمشتكين من عدم جدية الحكومة في تحقيق التعويضات وتأمين المنازل البديلة مما هُدِم. طيف كبير من المواطنين في المنطقة الشرقية لا يتوقف عند ما حصل في حدود أزمة المنازل البديلة والتعويضات أو فاجعة هدم البناء التاريخي، بقدر ما يحدثك عن تراكم التجارب الفاشلة مع نظام يثبت كل مرة عدم قدرته على الخروج من «ذهنيته الطائفية التي تفرضها الوهابية، بما يفقد الناس أي أمل في إدراك حق المواطنة»، وفق أحد الكتاب السعوديين من أبناء المنطقة. الأخير يوضح أن «كل هذه الأزمات توضع في سياق عام، هو أن النظام ينظر إلى أبناء المنطقة الشرقية كجالية أجنبية لا كمواطنين».