مصير المنطقة سيتحدد على ضوء الصراع بين حزب الله و”إسرائيل”..
أحمد الشرقاوي
عندما هاجمت "إسرائيل” ما قالت أنها قافلة أسلحة موجهة لحزب الله من إيران ورد الجيش العربي السوري على العدوان لأول مرة بصواريخ (إس 200) أدت إلى إسقاط طائرة صهيونية وإصابة أخرى برغم نفي تل أبيب، كتبت مقالا بعنوان "سؤال المرحلة: لماذا لم تزود روسيا "الحليف السوري بمنظومة (إس 300)؟"، خصوصا وأن سورية قدمت لروسيا من التضحيات الجسام ما لم يقدمه لها أي نظام عربي أو غيره حفاظا على احتكارها لسوق الغاز في أوروبا، وخلصت فيه إلى أن روسيا لم تفعل لاعتبارات سياسية تراعي الهاجس الأمني "الإسرائيلي” و العلاقات مع واشنطن.
بعدها كتبت مقالا بعنوان "صراع الإمبراطوريات بين الحسم والتسويات"، خلصت فيه إلى أنه لا يمكن الرهان على حل سياسي في سورية والمنطقة بناءا على منطق التسويات الذي يهيمن على تفكير بوتين، لأن طبيعة الصراع وفق القراءة التاريخية لأحداث المنطقة ونظرية صعود وسقوط الحضارات، تفرض على اللاعبين الدوليين والإقليميين منطق الحسم، والذي على أساسه، إما أن تنتصر أمريكا فتظل سيدة العالم تلعب دور القاضي والشرطي الضابط لإيقاع الأزمات وإدارتها وحلها وفق رؤيتها ومصالحها، أو ينتهي الصراع بولادة عالم جديد متعدد الأقطاب في حال قررت روسيا وحلفائها الصمود والمواجهة، وأن رهان موسكو على علاقات متميزة مع واشنطن وأدواتها لا يمكن أن يتحقق إلا إذا قبلت روسيا بدور الشريك التابع لأمريكا وتخلت عن حلم الشريك الند.
وبعد مسرحية خان شيخون، كتبت مقالا بعنوان "مذبحة خان شيخون مبرر لضربة عسكرية أمريكية حتمية.. لكن لماذا وكيف؟”، توقعت فيه وقوع الضربة الأمريكية قبل حدوثها بساعات، وشرحت الأسباب الداخلية والخارجية التي تقف ورائها، والسيناريو المعد لها، حيث انطلقت من قراءة خطية لتطور الموقف الإسرائيلي من الصراع في سورية والمنطقة، ومن ثابتة تقول أن اللوبي الصهيوني الذي يتحكم في لعبة الانتخابات وفي المؤسسة الأمريكية العميقة هو من يصنع السياسات ويحدد الأهداف ويرسم الإستراتيجيات المطلوب تنفيذها في إطار ما يسمى بالأمن القومي الأمريكي.
والأمن القومي الأمريكي أصبح كما هو معلوم مرتبط بأمن "إسرائيل” أكثر مما هو مرتبط بمصالح الشعب الأمريكي، وبالتالي، أي قراءة لاستراتيجية واشنطن في منطقة الشرق الأوسط لا يمكن أن تحيد قيد أنملة عن الأهداف التي تتوخى "إسرائيل” تحقيقها في سورية والمنطقة، وعلى رأس أولوياتها إبعاد إيران وحزب الله عن سورية، وقطع طرق التواصل والإمداد بينهما من خلال إقامة كانتون كردي في الشمال السوري مرتبط بكردستان العراق وآخر سني في الجنوب يمتد من الأردن إلى الجولان المحتل، تمهيدا لتغيير النظام في دمشق.
وهذا يعني أن الضربة الأمريكية كانت محضرة بشكل مسبق قبل حتى أحداث خان شيخون، وأنها لم تكن عشوائية، ولا عقابية، وبالتالي كانت الضربة جزءا من إستراتيجية ترامب الجديدة التي فاجأت روسيا المعنية بالرسالة أكثر من غيرها، لأنها كانت مجرد بالون اختبار لقياس رد فعل موسكو من خلال القول أن الويلات المتحدة الأمريكية هي شرطي العالم، وهي من تصنع الحرب والسلام والصيف والشتاء في المنطقة، وقد عادت لتكرس هذا الدور بمنطق القوة حتى لو تطلب الأمر تجاوز مجلس الأمن والقانون الدولي، ولن تسمح لأي كان بمنافستها أو منازعتها على هذه المكانة.
والسؤال الذي يجب أن يطرح بالمناسبة هو: – لماذا لم تعترض المنظومات الروسية الصواريخ الأمريكية المجنحة؟..
روسيا فاجأها هذا التحول الترامبي الكبير الذي شكل صدمة كبيرة لم تكن تتوقعها، لأن لا أحد اتصل بالرئيس بوتين ليناقش معه الأمر وفق ما تقتضي الأصول، بل تم إخبار القيادة العسكرية الروسية في سورية فقط، والتي أخبرت دمشق بدورها لتخلي مطار الشعيرات من الطائرات العاملة.
كان الرئيس بوتين يعتقد أن ترامب يسعى للتعاون معه في محاربة الإرهاب وإنهاء الفوضى التي نشرها أوباما و هيلاري كلينتون في المنطقة، وأنه لن يجرؤ على خوض حروب جديدة لا في سورية ولا في غيرها، ما دام قد أعلن أكثر من 25 مرة أنه ضد أي تدخل عسكري في الخارج، خصوصا في سورية، وأن هدفه هزيمة "داعش” لا إسقاط الأسد، وأن سياسته الجديدة تقوم على أساس "أمريكا أولا”.
فهم بوتين أنه كان يراهن على الوهم، وأن "إسرائيل” هي من تقف خلف هذا التحول الكبير والدراماتيكي الذي حدث، وأنها هي التي سعت لتدمير العلاقة الواعدة التي كان يراها في الأفق بين بلاده وأمريكا، فوبخ "النتن ياهو” على الحملة التصعيدية التي قادها ضد الرئيس الأسد في واشنطن والمنطقة، وفهم أن المقصود بها ليس تغيير الوضع في سورية فحسب، بل تقزيم دور روسيا وضرب مصالحها في حال رفضت التحذير الأمريكي.
وفي لحظة غضب، قرر الرئيس بوتين الرد بانفعال على التهور الأمريكي، فأمر بوقف العمل بمذكرة التفاهم الأمني لتجنب الصدام في الأجواء السورية بين البلدين، واتخذ قرارا يقضي بتعزيز دفاعات سورية الجوية في رسالة تصعيدية تجاه "إسرائيل”، بمعنى أنه لم يعد يأخذ هواجس تل أبيب ولا اعتبارات واشنطن بالاعتبار، وأنه سيزود سورية بمنظومة (إس 300)، ثم أصدر أوامره لإرسال السفينة الحربية الأدميرال غريغوروفيتش” المجهزة بصواريخ "كاليبر كروز″ المنافس الرئيسي لصواريخ "توماهوك” الأمريكية إلى القاعدة البحرية قرب السواحل السورية، حيث اعتبر المراقبون هذه الخطوة بمثابة رسالة حازمة تؤكد عدم تراجع موسكو عن دعم حليفها السوري بعد العدوان الأمريكي، ورفضها منطق القوة التي تحاول به أمريكا تقويض النظام الدولي المتعدد الأقطاب الذي هو في طور التشكل.
ورأينا كيف أن الضربة جاءت بعكس الهدف الذي كان يتوقعه ترامب منها، حيث بدل أن تدق إسفين بين موسكو وطهران، زاد التنسيق بينهما وأصبح الحديث عن استراتيجية لرد منسق بين الحلفاء هو العنوان الأبرز للمرحلة، ثم جاء بيان غرفة العمليات المشتركة لحلفاء سورية التي تضم روسيا وإيران وحزب الله والقوات الرديفة ليؤكد أن الرد سيكون بقوة على أي عدوان أمريكي محتمل مهما كانت التداعيات، وأنه لن يسمح لأمريكا بالهيمنة على المنطقة والعالم.
إلى هنا كانت الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، الأمر الذي أثلج صدور داعمي محور المقاومة وأصاب أدوات وأنصار أمريكا و”إسرائيل” بالرعب والخيبة خوفا من أن يطالهم لهيب الجحيم القادم في المنطقة فيحرق عروشهم ويدفن تحت الرماد أوهامهم. ولكن…
اليوم الأحد، جاء التوضيح من موسكو، ليؤكد أن الكرملين لا علم له بالبيان الذي أصدرته غرفة الحلفاء، وكانت ماريا زخاروفا قد قالت قبل ساعات أن موسكو لا زالت تراهن على المفاوضات مع واشنطن للوصول إلى قواسم مشتركة برغم صعوبة الظرف وحساسية المرحلة.
توضيح الكرملين وقبله تصريح زخاروفا برغم ما يتسم به من عقلانية لتجنيب المنطقة والبشرية ويلات حرب عالمية لا يعلم إلا الله نتائجها، اعتبرته واشنطن وحلفائها وأدواتها موقف ضعف واستسلام يبنى عليه للإقدام على الخطوة الثانية، والمتمثلة في فرض حظر جوي على الطيران السوري بدعوى استهداف المعارضة والمدنيين الآمنين وتمهيدا لإقامة المناطق العازلة في الشمال والجنوب، تماما كما حدث في العراق زمن بوش.
لهذا السبب فضلت عدم كتابة مقال لاستشراف مرحلة ما بعد الضربة في زحام المداد الغزير الذي سال بالمناسبة، وذلك لعدم قناعتي بأن روسيا ستكون مستعدة لمواجهة التحدي الأمريكي لحرصها على العلاقة مع واشنطن بأي ثمن، خصوصا في ظل قيادة رجل أحمق لا تنتج عنه غير قرارات رعناء وتصرفات هوجاء، وتفضل بالتالي انتظار زيارة وزير الخارجية الأمريكي هذا الأسبوع لموسكو لتتضح لها الصورة بشكل أفضل.
لا شك أن هذا الموقف "العقلاني” الجديد الذي اتخذته موسكو، نابع من قناعتها أن واشنطن لن تتراجع عن خطتها بعد الضربة التحذيرية التي كانت مجرد البداية لخطوات تصعيدية قادمة، وأنه في حال قررت موسكو المواجهة، فستحاول واشنطن توريط حلف الناتو الأطلسي والناتو العربي في المعركة من دون أن تتورط هي بجيوشها في رمال المنطقة، وهو الأمر الذي حذر منه وزير خارجية اللوكسانبورغ وتحفظت بشأنه ألمانيا مؤكدة على أن الحل في سورية شبه مستحيل من دون روسيا.
عدت بالذاكرة قليلا إلى تصريح وزير خارجية البحرين الذي قال فيه لقناة "سي إن إن ” الأمريكية يوم 19 من الشهر الماضي: "نتمنى من روسيا أن تغير سياساتها و تكف عن التدخل في شؤون الدول الأخرى في المنطقة، في سوريا تحديدا، و تأكدوا أننا سنواجه تصرفات روسيا باستخدام جميع ما لدينا من قدرات سياسية واقتصادية وعسكرية للدفاع عن أراضينا و رعايانا”، مؤكدا أن بلاده بشراكة مع "السعودية” وتركيا ودول إقليمية أخرى لم يسميها، لا يستبعدون الخيار العسكري في سورية بموازاة دعم "المعارضة” السورية.
حينها أدركت أن الرجل لا ينطق عن الهوى، وأنه على اطلاع بما يدبر في ليل لسورية في كواليس واشنطن ودهاليز تل أبيب، وقد رأينا كيف فاجأ ترامب روسيا بالضربة، وكيف قرر الكونجرس تزويد "المعارضة” السورية التي هي "النصرة” وحلفائها بصواريخ "مانباد” المحمولة على الكتف لإسقاط الطائرات السورية والروسية وتحييدها من المعركة تمهيدا لرسم المناطق الآمنة في الشمال والجنوب، وقد رأينا مباشرة بعد الضربة الأمريكي كيف أن تركيا حركت "جبهة النصرة” في الشمال، وكيف أن غرفة الموك حركة نفس التنظيم الإرهابي مدعوما في درعا، في انتظار ما ستفعله "إسرائيل” على جبهة الجولان المحرر لمنع وصول إيران وحزب الله لحدودها المزعومة.
ورأينا كيف أن عاهر الأردن أكد على نفس مفاصل إستراتيجية ترامب الجديدة من خلال حوار أجراه مع قناة "سي إن إن” الأمريكية خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، حيث قال أن على روسيا أن تتخلى عن الرئيس الأسد، وأنه يعتقد أنها ستفعل، خصوصا إذا عرضت عليها تسوية قضية جزيرة القرم والسلام في أوكرانيا، كما وأنه عاد ليذكر بالثوابت الإسرائيلية المتعلقة بإيران وتوسعها في المنطقة ورعايتها للإرهاب كما قال.
والسؤال الذي يطرحه الجميع اليوم هو: ماذا بعد هذه الضربة التي أعلنت من خلالها واشنطن أنها عادت بقوة للعب دور "الشريف” المسؤول عن أمن العالم؟..
لقد رأينا كيف قرر ترامب توجيه حاملات الطائرات والبوارج الحربية الهجومية إلى بحر الصين لمواجهة كوريا الشمالية إذا ما تمادت في استفزازاتها الصاروخية.
وتسربت أنباء نشرتها الصحافة البريطانية تقول، أن واشنطن لا ترى حلا للأزمة الليبية إلا من خلال تقسيم هذا البلد إلى ولايات ثلاث (ولاية برقة، ولاية طرابلس، ولاية فزان).
وكشف موقع بانوراما الشرق الأوسط معلومات حساسة عن كاتب مصري تفيد، بأن السلفية في مصر تتحدث عن مخطط "سعودي” لاستهداف أمن واستقرار الجزائر، الأمر الذي يصب في مصلحة الهيمنة الأمريكية التي تعمل على تكريسها أدوات واشنطن في المنطقة.
وسمعنا السلطان أردوغان يدعو الرئيس بوتين للتخلي عن دعم الرئيس الأسد والعمل مع واشنطن لإنهاء ما أسماه بـ”الشر” في سورية، منقلبا بـ 180 درجة على انعطافته الخادعة تجاه روسيا.
كما رأينا عودة استهداف الأقباط في مصر حيث ضرب الإرهاب مجددا وبقوة في طنطا والإسكندرية، وهي علميات متحكم بها عن بعد تديرها قطر وتركيا تنفيذا لأجندة واشنطن الخفية، والتي هدفها تقسيم مصر أيضا إلى دولة قبطية في الجنوب ودولة إسلامية في الشمال على شاكلة ما حصل في السودان، لأنه ولأول مرة خرج الأقباط بعد العمليتين الإرهابيتين ينتقدون الحكومة والمؤسسة الأمنية في مصر، ويقولون أنهم مستضعفون ومستهدفون، وهذه بداية خطيرة لتطورات دراماتيكية قادمة، ولو كان السيسي فعلا حريصا على وحدة مصر وأمن شعبها لتحالف مع روسيا ومحور المقاومة بدل أمريكا و”السعودية” و”إسرائيل”، ولقام بضربة عسكرية ضد قطر ليعيدها إلى حجمها الطبيعي بدل أن يطلب من المجتمع الدولي معاقبة من يمولون ويدعمون الإرهاب الذي يستهدف مصر والمنطقة.
وأمام هذا المشهد، لا يمكن الرهان إلا على إيران وحلفائها، لأن آخر همها هو مراعاة هواجس "إسرائيل”، وهي لا تقيم وزنا للعلاقة مع واشنطن وتتحداها في المنطقة. لأن روسيا اختلط عليها الأمر بعد أن تداخل الأمن القومي الأمريكي مع الأمن القومي "الإسرائيلي”، وأصبحت سياسة ترامب الخارجية ترسم من قبل تل أبيب في المنطقة.
وعلى ضوء ما سلف، لا يمكن التعويل على انخراط فعلي من قبل موسكو في مواجهة الأصيل بعد فشل الوكلاء واقتربت ساعة هزيمة الأدوات الإرهابية، لكن الدعم السياسي سيظل قائما، والدعم بالسلاح النوعي والذخيرة لن يتوقف، حتى لا تهزم سورية وحلفائها، لأن انتصارها انتصار لروسيا أيضا، والتي تفضل إدارة الحرب من الخلف.
لذلك، لم يبق من ورقة قوية يمكن أن تغير مجرى الصراع في سورية والمنطقة برمتها غير ورقة حزب الله والمقاومات الشعبية في المنطقة، وكل المؤشرات تدل على أن "إسرائيل” عازمة على التورط في سورية أكثر من أي وقت مضى لإعادة الاعتبار لدورها كثكنة عسكرية متقدمة في المنطقة، وسترتكب حتما خطأ العمر الذي سيفتح عليها أبواب الجحيم، ولن يكون بمقدور واشنطن حمايتها آنذاك، لأن تدخلها في الحرب سيعني دخول إيران وما يعنيه ذلك من استهداف للقواعد الأمريكية ومصالحها.
نقول هذا لأن أي حل يحفظ أمن واستقرار "إسرائيل” من قبل إيران وحلفائها هو انتحار يستحيل مجرد تصوره، لذلك لا يمكن الرهان على تسوية سياسية تنتهي بالاعتراف بحق الكيان الصهيوني المجرم في الوجود بفلسطين والسماح له بفرض هيمنته على المنطقة.
لهذا نقول، إن مصير المنطقة سيتحدد على ضوء الصراع بين حزب الله والمقاومات الفلسطينية والإسلامية والعربية من جهة و”إسرائيل” وداعميها من جهة ثانية.. وهذه معركة وجود نراها قادمة في عهد ترامب لنكون أو لا نكون، لأن استهداف حزب الله هو من ضمن أولويات واشنطن و”إسرائيل”، وقد أكد ترامب ذلك بقوله: "سترون ماذا سنفعل بحزب الله في سورية”.