نظام تركيا: ديموقراطية موسوليني وعقدة غيفارا و.. البقلاوة!
محمد نور الدين -
وسط غبار التفاهم الأميركي ـ الروسي والسعي المحموم لتفريغ انجاز الجيش السوري في حلب والخشية من فخ «هدنة شباط» ثانٍ، يواصل المشهد الداخلي التركي غليانه في كل الاتجاهات.
حملة التطهير الشاملة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ تركيا كَسَرت كل الأعراف وتجاوزت كل الحدود. لم يبقَ حجرٌ مشتبه فيه على حجر مشتبه فيه والحبل على الجرار. بالأرقام، ربما يكون تجاوز رقم المطرودين من أعمالهم او الموضوعين في التصرف او الموقوفين قيد التحقيق او المعتقلين في السجون مئتي ألف شخص.
الجميع متهمون بأنهم منتمون او ميالون إلى جماعة فتح الله غولن. آخر المعتقلين قبل أيام هو فاروق غوللي اوغلو، صاحب أشهر محل حلويات البقلاوة في تركيا، والذي كان نتاجه يقدم هدايا للملوك والرؤساء العالميين. كذلك اعتقل شقيقه محمد نجاة غوللي أوغلو. وبعده بيوم، اعتقل صاحب محل آخر شهير للبقلاوة هو مصطفى سيدي أوغلو. والتهمة الأغرب انهم أعضاء في تنظيم إرهابي، أي جماعة غولن.
لن يستطيع رجب طيب أردوغان بعد اليوم ان يأكل من «بقلاوة غوللي اوغلو الممتازة»، لكنه يواصل وبشهية عالية التهام خصومه في مثلث غولن ـ الأتاتوركيين ـ الأكراد.
كان المثقفون دائماً عقدة نظام حزب «العدالة والتنمية». افتقاره إلى الكوادر الكفوءة جعله يسلم قدره إلى كوادر جماعة غولن منذ العام 2002. اما مثقفو البلاط، المعدودون، فلم يفعلوا سوى أن يقودوا البلاد، بـ«ثقافتهم» الواسعة، إلى مغامرات بائسة أنهت الدور التركي الذي تأسس أعوام 2002-2010 لتكون تركيا معزولة بالكامل عن محيطاتها.
انقلاب 15 تموز 2016 أكد «عقدة الفكر والتفكير» لدى حزب «العدالة والتنمية». كل من كتب بما لا ينسجم مع توجهات هذا الحزب والزعيم الأوحد كان نصيبه تهمة الانتماء إلى منظمة إرهابية وليس هناك من يحاسب. وإلى العشرات الذين من بينهم نازلي إيليجاق وممتازير توركينيه وأصلي أردوغان وعلي بولاتش وشاهين ألباي ونورية آقمان وغيرهم، جاء الدور قبل أيام على الكاتبَين الكبيرين أحمد ألتان وأخيه البروفسور محمد ألتان.
من اطرف أسباب الاعتقال أن محمد ألتان توقع قبل يوم واحد من الانقلاب في مقابلة تلفزيونية أن يحدث انقلاب عسكري. وكانت التهمة أنه لو لم يكن على علم بالانقلاب لما عبّر عما يختزنه وعيه الباطني من «شيفرات»!.
حتى لو افترضنا أن كل هؤلاء المعتقلين من الكتاب الكبار والصحافيين هم من جماعة فتح الله غولن، وهذا حتماً وقطعاً ليس ذلك، فهذا لا يبرر اعتقالهم لمجرد ميولهم الفكرية. فأن تكون لك ميول فكرية محددة شيء، وان تتوسل العنف اداة لذلك شيء آخر.
لم يعد الأمر مجرد اشتباه بانتماء إلى جماعة غولن. يقول كمال كيليتشدار أوغلو زعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارض إن الأمر تحول إلى حفلة صيد لكل الأتاتوركيين. وتحول الانتقام من مدبري المحاولة الانقلابية إلى سعي لتعديل هيكلية الدولة العلمانية والجمهورية ككل. وهو ما يجعل مراسيم حال الطوارئ تتخطى حدودها لتحل محل دور البرلمان المعني تحديداً بتعديل هيكلية الدولة.
النزوع إلى تعميم القبضة الدينية وتغيير طبيعة الدولة العلمانية عرف كذلك اندفاعة أكبر من قبل. تَحَوَّلَ القصر الرئاسي الجديد في «بش تبه» في أنقرة إلى مكان لإقامة حفلات الذكر الصوفية. وتسمية الأماكن العامة بأسماء السلاطين العثمانيين جارية على قدم وساق. وإلى دخول المحجبات قطاع الشرطة، فإن المناضل العالمي تشي غيفارا تحول إلى «عاصٍ» بنظر رئيس البرلمان اسماعيل قهرمان. أيضاً فإن التهمة جاهزة للمعارضين الأكراد من «حزب العمال الكردستاني» من أنهم يريدون إبعاد الشعب التركي (ومنه ضمناً الكردي) عن دينه وجعله ملحداً وماركسياً. الوسيلة الأسهل للتشهير بـ «الكردستاني» هي انه ماركسي وملحد.
لم تدم روح «يني قابي»، أي المهرجان الجامع الذي شارك فيه الجميع من سلطة ومعارضة في السابع من آب الماضي، أكثر من مدة إقامة المهرجان نفسه. وبعد حفلة التطهير الشاملة، قال كيليتشدار اوغلو إنه «لم يعد ممكناً القول إننا في نظام ديموقراطي»، في استدراك متأخر للاستدراج الذي جرّه إليه اردوغان بعد الانقلاب في التضامن معه لمواجهة غولن. حتى إذا قطع اردوغان شوطاً كبيراً في ذلك، يمّم وجهه شطر العلمانيين والأتاتوركيين والأكراد، من دون ان يدري كيليتشدار اوغلو ما هو فاعله لمواجهة خطر الاستبداد المكشوف.
عقدة الأكراد
وكما رفع نظام «العدالة والتنمية» شعار محاربة «داعش» في تموز 2015 ذريعة من اجل الانتقال إلى محاربة الأكراد، فالأمر ذاته يتكرر اليوم. فاستئصال أتباع غولن في الدولة بذريعة الانقلاب العسكري الفاشل لم يكن سوى مقدمة للانتقال إلى حملة الاستئصال الأصلية، وهي إضعاف المجتمع الكردي في تركيا.
لقد بات معروفاً أن إحدى كبرى مشكلات اردوغان والعوائق امام استكمال مشروعه في الاستئثار بالسلطة هو تمكن «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي من الفوز بأكثر من عشرة في المئة (نال 13 في المئة في انتخابات السابع من حزيران 2015، وفي انتخابات الأول من تشرين الثاني الماضي نال 11 في المئة)، ودخوله البرلمان كحزب، ما حرم «العدالة والتنمية» من أكثر من 40 نائباً، وبالتالي عدم قدرته على امتلاك غالبية الثلثين او الـ330 نائباً للتحكم في القرارات الأساسية.
«عقدة الأكراد» لا تزال تلاحق نظام «العدالة والتنمية». وها هو بذريعة محاربة الإرهاب في سوريا، ما تسبب في تدخله في سوريا، يستكمل حملته العسكرية على «الكردستاني» في داخل تركيا وفي شمال العراق فضلاً عن سوريا.
لا يكتفي النظام التركي بحربه العسكرية. وما عجز عن تحقيقه في الانتخابات البلدية يعمل الآن على تحقيقه عبر مراسيم حال الطوارئ، فيحلّ أكثر من 28 بلدية كردية ويعين بدلاً من مجالسها البلدية المنتخبة هيئة وصاية من الحكومة تديرها. والتهمة جاهزة: دعم إرهاب حزب العمال الكردستاني.
نترك الكلام لأهم مؤرخ تركي معاصر، وهو إيلبير أورطايلي، الذي قال إن «البلديات في إيطاليا في عهد موسوليني كانت أكثر ديموقراطية من بلدياتنا الآن»، مضيفاً أنه «لا يمكن إقامة ديموقراطية من دون قانون ومن دون مفهوم حقوقي».
إقالة المجالس البلدية لـ28 بلدية واعتقال العديد منهم قابلهما إعلان السفارة الأميركية في أنقرة في بيان لها عن قلقها من وضع اليد على البلديات، آملة ان يكون ذلك موقتاً.
وكانت ردود فعل عنيفة تركية على بيان السفارة الأميركية عندما قال زعيم حزب الحركة القومية دولت باهتشلي بأن تركيا ليست الولاية الـ53 لأميركا، بينما قال وزيرالخارجية مولود جاويش اوغلو إن على السفارة ان تعرف حدّها، وإن احداً ليس وصياً على تركيا. ردة الفعل التركية تعكس ازدواجية معهودة من تركيا التي ترفض من جهة وصاية أميركية عليها، ولكنها تتعامل مع سوريا تحديداً كما لو انها الولاية الـ82 لتركيا. وهو ما كان مرة عبد الله غول ـ وكان رئيساً للجمهورية ـ قالها لاردوغان، وكان رئيسا للحكومة، من انه (اردوغان) لا يمكن ان يكون في الوقت نفسه رئيساً لحكومات تركيا وسوريا ومصر.
وسط هذه الأجواء السلبية كانت خطوة الحكومة التركية السماح بكسر العزلة المفروضة على عبد الله أوجلان في معتقله في إيمرالي بعد حوالي السنتين من منع احد الالتقاء به محاولةً لذر الرماد في العيون وحرف الأنظار عن الحملات العسكرية والسياسية ضد الأكراد في جنوب شرق البلاد، والتي وصفت بأنها الأكبر بتاريخ تركيا، والتي قال وزير الداخلية الجديد سليمان صويلو عنها إنها ستكون بلا رحمة.
وقد نقل محمد أوجلان الذي سمح له الالتقاء بشقيقه عبد الله أوجلان عن الأخير رسائل في أكثر من اتجاه، ومنها دعوة الزعيم الكردي الدولة لاستئناف المفاوضات معه حيث لديه مقترحات لوقف العنف، وانه إذا كانت الدولة جاهزة لذلك فيمكن إنهاء المشكلة في ستة أشهر، وإلا ستبقى المشكلة قائمة لمئتي عام.
بالطبع لا يمكن توقع ان تحل مشكلة مزمنة ومعقدة وتزداد تعقيداً لا خلال ستة أشهر ولا ست سنوات، ولا ربما ستة عقود، في ظل الذهنية الإنكارية التركية للحقوق الكردية التي تمتد لتشمل الأكراد الذين يعيشون في دول لا سيادة لتركيا عليها مثل سوريا.
أوجلان يحاول ان يختبر النوايا التركية بعد كل هذا الانقطاع عن التواصل معه، ولكنه يفتح الباب على احتمالات تصعيد كبيرة في حال تلكؤ الحكومة عن مقاربة المشكلة بذهنية جديدة مستبعدة جداً في الظروف الحالية.
تحولت تركيا، بفعل الانقلاب المدني - الديني المضاد على الانقلاب العسكري، إلى أكبر سجن في العالم منذ عقود، بل ربما على مرّ التاريخ، كما للناس كذلك للمثقفين. وقد أطاح أردوغان هذا السلوك بكل إشارات الانفتاح والرغبة في التصالح مع المعارضة التي كانت وقفت إلى جانبه في معارضة الانقلاب العسكري، معيداً إنتاج نظام الاستئثار بأضعاف ما كان عليه، متناسياً ان نظام الاستئثار هذا كان من أحد أسباب المحاولة الانقلابية، وأن مغامراته الخارجية المشبوهة في سوريا وفي العراق و «تفاهماته» المشتبه فيها مع دول إقليمية وعالمية، لن تعفيه من مسؤولية انفجار الوضع الداخلي مجدداً وأعنف مما كان عليه سابقاً.