خلفية مؤتمر غروزني التاريخية
زينب عقيل
بقدرة النفط والاستيلاء على الأراضي المقدسة، تدخل الوهابية اليوم نادي زعامة العالم الإسلامي على جناح الإرهاب. ويتّضح أن الباب يُفتح ويُغلق بحسب الاصطفاف السياسي للمرجعيات والمؤسسات الإسلامية، وبالتوقيت الدولي للمصالح.
ويبدو أن الضوء الاخضر اليوم، قد أعطي للأزهر. إذ يكشف مؤتمر غروزني الذي بات أشهر من أن يعرّف، عن محاولة لاستعادة دور الأزهر التاريخي في الزعامة، من خلال إقصاء التوأم غير المتطابق: الوهابية والإخوان المسلمون. ويأتي عنوان المؤتمر "من هم أهل السنة والجماعة"، بمثابة الإعلان الجريء عن خلفيات انعقاده.
الواقع أن ثمة خلفياتٍ تاريخية تربط مصر بالوهابية منذ نشأتها الأولى. فالحاجة إلى حلفاء لبريطانيا في الطريق إلى الهند والمستعمرات الشرقية، استلزم صناعة قوة حليفة في شبه الجزيرة العربية. تمثلت بتحالف بين محمد عبد الوهاب صاحب عقيدةٍ تطهيريةٍ مثيلة للتطهيرية الإنجيلية، وبين سعود بن مقرن صاحب العقلية البدوية التي لا تعترف لأحدٍ بالمرور قبلها، وتنطلق من قاعدة "كل ما أبصرته فهو لي، وما لم أبصره فلي فيه النصف".
بعدما دخلت الامبراطورية العثمانية طور الانهيار، رأت بريطانيا أنّ مستقبل الوجود الوهابي مرتبط بجو دعوي وإعلامي، ولم يكن هناك أفضل من الأزهر للقيام بالمهمة. الرهان البريطاني على الازهر انطلق من كونه يُشكّل الراية العلمية الدينية الأكبر في العالم الإسلامي. كما أن هذه المؤسسة الدينية، لا تتبنى أي مذهب عقائدي وفكري، ما يسهّل على الوهابية التوسع والانتشار.
في هذا السياق يقول الباحث والكاتب المصري محمود جابر في كتابه "الوهابية في مصر": "حتى يتم هذا الهدف كان لا بد من إنشاء قاعدة بشرية وهابية تروج لهذه النحلة، ووضع سياسة من شأنها إضعاف القوة المصرية، وهذه كانت خبرة التاريخ لدى البريطانيين طوال القرن الثامن عشر. فكلما قويت مصر، انهارت الدولة الوهابية في شبه الجزيرة العربية".
مؤتمر غروزني: هل يستعيد الأزهر دوره الريادي؟
المحاولة البريطانية لم تنجح تماما داخل الأزهر وادت الى ردة فعل عكسية لدى اوساط عديدة فيه منذ ذلك اليوم، تستعر المعركة بينه وبين الوهابية وتخمد تحت الرماد بحسب مواقف الحكام المصريين. بل تزدهر المؤسسة وتضعف بحسب استراتيجيات الحكم بطبيعة الحال. ويُذكر للأزهر أنه في بدايات انطلاق الوهابية في عصر محمد علي باشا، بادر إلى نقد فكرها وتكذيب أحكامها، إلى حين قيام ابنه ابراهيم باشا بالقضاء على الدولة السعودية الأولى بناءً على طلب السلطان العثماني عام 1818. ولهذه المناسبة، جرى في مصر احتفال بهيج، أُطلقت فيه الألعاب النارية. كما أمر الخليفة العثماني بأداء صلاة الشكر على إبادة الطائفة التي خربت مكة والمدينة في عموم السلطنة.
استطاع الاستعمار البريطاني إعادة الدولة السعودية وسميت بالثانية. لكنها كانت ضعيفة فقضي عليها في وقت قصير. إلى حلول القرن العشرين كان الزمان مناسبٌ جدًا لعودة تلك الدولة. وهذا ما كان.
بعد الحرب العالمية الثانية واكتشاف النفط، ورثت أميركا التركة الاستعمارية للبريطانيين وبدأ عهد جديد من الاستراتيجيات، لم تختلف ملامحه ولا أهدافه عن العهد القديم. كان الانسجام بين المملكة السعودية والولايات المتحدة قد بلغ حد التوأمة انذاك، إذ عمد الملك عبد العزيز لمناداة الرئيس روزفلت بـ "شقيقي التوأم". بل طالبه "أن يضع في حسبانه أن المملكة السعودية جزء من أمريكا عندما يقومون بتطوير خطتهم الدفاعية".
حاول عبد الناصر تشكيل حلف استراتيجي مع المملكة السعودية نظرًا لمكانتها الجديدة في العالم الإسلامي، إلا أن الولايات المتحدة عارضت "إنشاء مجلس أعلى، ومجلس حرب، وقيادة مشتركة" ما ساهم باقامة حاجز قوي بين مصر والمملكة. . ولم يرُق لواشنطن طبعًا سعي عبد الناصر لتعزيز جهود التقريب بين المسلمين.
الواقع أنه في عهد عبد الناصر، نشط الأزهر كمرجعية إسلامية احتوت كافة المذاهب والطوائف. ادّت إلى إخراج موسوعة فقهية على المذاهب السنية الأربعة والظاهرية والزيدية والشيعية وغيرها. سميت موسوعة عبد الناصر الفقهية، بحثت في الفقه المقارن والمساحات المشتركة بين المسلمين. وانتهت بانتهاء عبد الناصر.
ما إن وصل أنور السادات إلى السلطة، وجرت المصالحة مع السعودية والولايات المتحدة، حتى توالت الجماعة الوهابية "تنشطر وتتكاثر كالخلايا السرطانية تحتل أجزاء الجسد، وحكاية الجماعات الوهابية العلمية منها والجهادية السلفية والاخوانية، تشبه في بنائها بيت العنكبوت، من المستحيل تحديد نقطة البداية ونقطة النهاية. وبناؤه الفكري والعقائدي ينهار حين تحاول أن تمسكه لأنه عارٍ من أي دعائم حقيقية أو حتى زائفة". يقول محمود جابر.
الواقع أن الآثار السياسية والاجتماعية والاستراتيجية للحقبة التي حكمها السادات، أرخت بظلالها القسرية على المشهد المصري طيلة ثلاث عقود من حكم مبارك. وما زالت الكتب التي تروي بعض خفايا وأسرار تلك الحقبة تصدر في الولايات المتحدة حتى اليوم. تناقش التحول الاستراتيجي الخطير في معادلات المنطقة. ومنها كتاب "لعبة الشيطان" للمحلل والباحث الأميركي في شؤون الإرهاب في العالم الإسلامي روبرت دريفوس، يقول فيه: "لقد كانت السنوات التي تولى فيها السادات حكم مصر نعمة كبرى وحقيقية حولت مجريات السياسة لصالح الرياض وواشنطن تمامًا في العالم العربي والشرق الأوسط".
واليوم، يبدو أن ثمة مجريات جديدة تحاول أن تفرض نفسها في سلسلة المخاضات والاجهاضات المتكررة للشرق الأوسط الأميركي الجديد. ويبدو أيضًا أن هناك محاولات لاستعادة دور ريادي للأزهر . الا ان النجاح مرهون باستعادة المؤسسة الدينية البارزة من الوهابية. فهل يشكل مؤتمر غروزني الاخير خطوة على الطريق الطويلة والشاقة ؟