قرار مصر الغاء اتفاق التنازل عن جزيرتي صنافير وتيران للسعودية ومصير مليارات الرياض
عبد الباري عطوان
تسود الاوساط المصرية الشعبية والرسمية، حالة من الفرح غير المسبوق، احتفالا بصدور قرار عن مجلس الدولة المصري، الذي يعتبر اعلى هيئة قضائية في البلاد، بالغاء اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية التي منحت جزيرتي "صنافير” و”تيران” الى الاخيرة، اثناء زيارة العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز الى مصر في نسيان (ابريل) الماضي.
هذه الفتوى القانونية المفاجئة تعني ان تنازل مصر عن السيادة على الجزيرتين للسعودية باطل كليا، وان الجزيرتين مصريتان، الامر الذي يثير العديد من علامات الاستفهام حول توقيت صدور مثل هذا الحكم، والهدف من ورائه والانعكاسات المترتبة على العلاقات المصرية السعودية.
الجميع يدرك، خارج مصر وداخلها، ان القضاء المصري ليس مستقلا مئة بالمئة، وان معظم احكامه يتم التحكم فيها من قبل السلطة السياسية التنفيذية العليا في البلاد، مثلما هو الحال في معظم، ان لم يكن كل، دول العالم الثالث، ومن هنا لا نعتقد ان الرئيس عبد الفتاح السيسي فوجيء بمثل هذا القرار، او لم يكن على علم مسبق به، هذا اذا لم يكن قد اوعز به فعلا.
تنازل الحكومة المصرية عن الجزيرتين الواقعتين في مدخل خليج العقبة فاجأ المصريين جميعا، ولقي معارضة شديدة من الغالبية الساحقة منهم، خاصة النخبة السياسية المحيطة بالرئيس السيسي، التي ايدت اطاحته بالرئيس المنتخب محمد مرسي، وحكم "الاخوان المسلمين”، مثل السيد عمر موسى، وعلاء الاسواني، وحمدين صباحي، المرشح الناصري للرئاسة، والدكتور حسن حنفي، الاكاديمي المعروف، والقائمة تطول.
الرئيس السيسي فوجيء بهذه المعارضة القوية لقراره هذا، والاتهامات التي جرى توجيهها له، ببيع ارض مصرية للسعودية مقابل مساعدات مالية وصلت قيمتها الى حوالي 27 مليار دولار، مثلما فوجيء بالمظاهرات والاحتجاجات الشعبية رفضا للتنازل، وانطلقت من ميدان التحرير في القاهرة ومدن مصرية عديدة.
المصريون يتمتعون بحساسية مفرطة وغير عادية تجاه مسألة التنازل او بيع الارض، ويعتبرون مسألة البيع هذه خطيئة كبرى يستحق من يقدم عليها النبذ، وربما القتل ايضا، ولعل اشهر اغنية في التراث الشعبي المصري تلك التي تقول "عواد باع ارضه يا ولاد” ورددها المحتجون كثيرا في مظاهراتهم، ووصلت اصداؤها الى الرئيس السيسي، حتما اضجعت منامه.
وسائل التواصل الاجتماعي حفلت بالعديد من المقالات والتعليقات التي شبهت الرئيس السيسي بعد توقيعه اتفاق التنازل عن الجزيرتين للسعودية بأنه هذا "العواد” الذي باع ارضه وارتكب هذا العيب، او الخطيئة الكبرى.
وكانت اتهامات مماثلة جرى توجيهها الى الرئيس مرسي بتنازله عن مساحات من جزيرة سيناء لتوطين الفلسطينيين، وهي اتهامات لم يكن لها اي اساس من الصحة، واستخدمت الى جانب اخرى لتبرير الثورة ضد حكم "الاخوان المسلمين”، ولتحريض الشارع المصري للاطاحة بهم، وهذا ما حدث.
ومن المفارقة ان الرئيس السيسي كان وراء فقرة في الدستور الجديد الذي جرى اقراره في استفتاء شعبي، تنص على حظر للتنازل عن اي اراض مصرية للآخرين تحت اي ظرف من الظروق.
الرئيس المصري الراحل انور السادات الذي وقع اتفاقات كامب ديفيد مع الاسرائيليين رفض التنازل عن منطقة طابا، التي كانت عبارة عن فندق اقيم في ارض لا تزيد مساحتها عن كيلومتر واحد مربع، واصر على عودة السيادة المصرية عليها بعد مفاوضات مريرة، استمرت اربع سنوات لتجنب اي اتهامات بالتنازل عن شبر واحد من الارض المصرية، لمعرفته بمدى حساسية هذه المسألة بالنسبة الى المصريين، كما رفض الرئيس الراحل ياسر عرفات امتداد مهبط الطائرات في مطار غزة بضعة كيلومترات داخل سيناء للشيء نفسه.
حكم مجلس الدولة المصري ببطلان التنازل عن الجزيرتين ابتدائي، وقابل للطعن، واكد الدكتور مجدي العجاتي، وزير الشؤون القانونية، ومجلس النواب، ان الحكومة ستطعن فيه، ولكن السؤال المطروح بقوة هو لماذا صدر هذا الحكم بالاساس؟
لا نملك معلومات مؤكدة حول الاسباب، فنحن من بين الذين فوجئوا به، ولكننا نستطيع ان نتكهن بأن الرئيس السيسي، وبسبب المعارضة الشديدة لاتفاق التنازل قد يريد تحقيق احد الامرين:
الاول: التملص من هذا الاتفاق بسبب الاحتجاجات الشعبية الضخمة ضده، وادراك خطورة الاستمرار فيه وتنفيذه.
الثاني: استخدام هذا الحكم للضغط على الحكومة السعودية للحصول على المزيد من المساعدات المالية، خاصة ان العجز في الميزانية المصرية وصل الى ثلاثين مليار دولار في الاشهر العشرة الماضية.
لا نستبعد اي من الاحتمالين، وخاصة الاحتمال الاول، فالرئيس السيسي تعرض، ويتعرض، الى ضغوط مكثفة من المؤسستين العسكرية والشعبية للتراجع عن هذا الاتفاق، والتنازل عن الجزيرتين بالتالي، فبينما صادق مجلس الوزراء السعودي عليه، لم يعرضه الرئيس السيسي على البرلمان المصري للتصديق عليه مطلقا، ولو كان يريد اعتماده لعرضه فور توقيعه، خاصة ان معظم نواب هذا البرلمان من مؤيديه، ولا توجد اي معارضة حقيقية له تحت قبته.
نرجح الغاء هذا الاتفاق من الجانب المصري، والتنصل من تبعاته، والاحتفاظ بالسيادة المصرية على الجزيرتين، واعادة الوضع الى ما كان عليه قبل زيارة الملك سلمان الى القاهرة، وهذا الموقف قد يترتب عليه تدهور في العلاقات ومعارك قانونية مع السعودية، ربما تمتد لسنوات، او عقود في محكمة العدل الدولية، او غيرها من المؤسسات القانونية.
ماذا عن المليارات التي حصلت عليها الحكومة المصرية من السعودية مقابل التنازل عن الجزيرتين؟ الجواب في "بطن” الرئيس السيسي!