كيري والكلام لآخر مرة عن الأسد
ناصر قنديل
- لم يكن يعلم وزير الخارجية الأميركي جون كيري أنّ الكلام الأخير الذي قاله عن سورية والرئيس السوري بشار الأسد هو آخر كلام يمكن أن يقوله ويصيغه في جملة مفيدة عن سورية ورئيسها، وأنّ ما سيقوله بعده سيبقى تكراراً له حتى لا يبقى عنده ما يقوله بعده. فقد قال كيري إنّ على الأسد الرحيل لكن ليس بالضرورة الآن، في صياغة أميركية متعجرفة لمعادلة ألمانيا وبريطانيا، المنتهكة أيضاً للسيادة السورية ولكن المخففة في غطرستها نسبياً والتي تقول إن لا مانع لدور الأسد في المرحلة الانتقالية.
- منذ لقاء وزيري خارجية روسيا وأميركا سيرغي لافروف وجون كيري وصدور بيان جنيف الأول الذي أجمع السوريون وغير السوريين على اعتباره، على رغم التحفظات، أساساً صالحاً للحلّ السياسي، والمسار السياسي للأزمة والحرب في سورية وعليها، متوقف على نطق كيري ونظرائه الأوروبيين بهذه الجملة المفيدة، أنّ المرحلة الانتقالية التي نصّ بيان جنيف عليها، وبقيت غامضة، وتحتمل تفسيرين متناقضين لصاحبي البيان، بات ممكناً التقدّم بتفسير موحد لها ليقلع المسار السياسي من هذا التفسير.
- لقد نص بيان جنيف على بنود الدعوة إلى حوار سوري سوري، والدعوة لقيام إصلاح دستوري، والاعتماد على الحوار لحلّ النزاعات ووقف العنف، والوقوف في وجه الإرهاب، والتهيئة لانتخابات تنتج مؤسسات دستورية تعبّر عن مشيئة السوريين. ولضمان تنفيذ هذه البنود التي تشكل الحرب على الإرهاب إحدى مفرداتها يتشكل جسم حكم انتقالي يضمّ الحكومة الحالية والمعارضة ويكون كامل الصلاحيات التنفيذية، وعلى رغم أنّ شبه الإجماع قد تحقق دولياً وإقليمياً، فقد كان كافياً الغموض في تحديد ماهية الجسم الانتقالي الحكومي ليغطي على انقسام المؤيدين لبيان جنيف، بالتالي استمرار الخلاف العميق بين معسكرين كبيرين منقسمين أصلاً حول الموقف من سورية، على رغم تكرار الجميع تأييده لبيان جنيف.
- مصدر الغموض في بيان جنيف هو سبب هذا الانقسام، أو في تصوير بقاء الانقسام تفاهماً يفصله عن الاكتمال بند بسيط، ليصير هذا البند البسيط كما كان في الأساس، سبب الحرب على سورية وفيها، ومحور الانقسام حولها أصلاً، وحيث لا يفيد التفاهم واللقاء على مجلدات من الكلام المنمّق والمزيّن بأطيب الكلمات، لتخطيه من دون صدور جملة مفيدة، تقول ببقاء الأسد أم برحيله، بقيام هذا الجسم الحكومي الانتقالي بوجوده رئيساً، بالتالي قيام حكومة وحدة وطنية تجسّد هذا الجسم الحكومي الانتقالي من ضمن السيادة السورية والدستور السوري، أم قيام هيئة حكم انتقالية تستعيد نموذج مجلس الحكم الذي أنشأه بول بريمر الحاكم الأميركي للعراق، من خلال قرار يصدر وفقاً للفصل السابع للأمم المتحدة ينهي السيادة السورية ويعلّق العمل بالدستور السوري ويعيّن هذه الهيئة؟
- كانت القضية التي يتمحور حولها الصراع في سورية وعليها وحولها، تختصرها كلمة "الأسد”، ففيه تختزن معاني الدستور والسيادة، وبه تختصر ثوابت سورية الاستقلال والعروبة والوحدة الوطنية والمقاومة. لذلك كان يكفي أعداء سورية أن يقولوا نعم لكلّ شيء يعرض عليهم والاكتفاء بالقول لا للأسد. وبعكسهم كان يكفي مناصرو سورية أن يقولوا نعم لكلّ شيء يعرض عليهم ويتوّجونها بنعم كبيرة للأسد. وصار أعداء سورية مناصرين لبيان جنيف وفقاً لتفسير يقول باستحالة تطبيقه من دون رحيل الأسد، فيسهل لهم عندها تحقيق كلّ ما يريدون فيسقط الدستور وتنتهك السيادة ويسقط استقلال سورية وتسقط وحدتها وعروبتها وخيارها المقاوم. وبالعكس صار مناصرو سورية مؤيدين لبيان جنيف وفقاً لتفسير يقول بِاستحالة تطبيقه من دون الأسد فتحمى ضمناً سيادة سورية ويصان دستورها واستقلالها وتحصّن وحدتها وعروبتها ويحفظ خيارها المقاوم.
- منذ صدور بيان جنيف كانت كلّ الحروب تدور لحسم هذه النقطة، هل يمكن البدء بمسار سياسي مع الأسد أم من دونه، وكان الفريقان يعلمان أنّ العضّ على الأصابع والرهان المتبادل على نفاد الوقود ونفاد الوقت، يختصران برهان حلف الحرب على سورية على نفاد قدرة حلفاء سورية على الصمود والقبول بحلّ يبدأ من دون الأسد، وما نسمّيه الرهان على نفاد الوقود، ورهان أنصار سورية وحلفائها، على بلوغ الأميركيين والأوروبيين لحظة لا يملكون معها المزيد من الوقت ويضطرون للقول لا مانع من مرحلة انتقالية يكون الأسد جزءاً منها، ونسمّيها الرهان على نفاد الوقت، والفريقان يعلمان، أنّ ما بعد كلّ حالة مساراً مختلفاً وكافياً ليضمن أن تكون آخر جملة مفيدة ينطقها كلّ من الفريقين هي هذه الجملة. فأعداء سورية وحلف الحرب عليها يعلمون أنّ الحلّ السياسي الذي يتضمّن بقاء الأسد، أو عدم رحيله فوراً، كما قال كيري، يعني أنّ الحكم سيتواصل من ضمن مؤسسات السيادة والدستور في سورية وسينتهي حكماً بانتخابات نيابية ورئاسية هي التي ستقرّر، من سيستمرّ ومن سيرحل من مؤسسات الحكم. وهم لو كان لديهم بصيص أمل بفرصة إسقاط الأسد في الانتخابات وبالاستناد إلى صناديق الاقتراع لاختصروا المسافات واكتفوا بالقبول بالاحتكام لهذه الصناديق. وفي المقابل كان مناصرو سورية وحلفاؤها يعلمون أنهم عندما يقبلون بحلّ يبدأ من دون الأسد فإنهم يقبلون بوضع مستقبل سورية السياسي والدستوري في أيد ستذهب بها إلى المسار العراقي لتعيد تنظيم السلطة على أسس طائفية ومذهبية تفتح طريق التقسيم وتنهي عهد السيادة والاستقلال والمقاومة.
- يعلم كيري أنّ المسار السياسي الذي سينطلق في جنيف الثالث، باتت له حظوظ النجاح بعد أن نطق هو وحلفاؤه الجملة المفيدة المنتظرة، وصار لسائر البنود معناها المختلف عن المعنى الآخر لو نطق مناصرو سورية بالجملة البديلة التي تقوم على مسار سياسي من دون الأسد. ويعلم كيري أنّ المسار السياسي بعد كلمته المتلعثمة سيقيّد المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا بتفسير روسي أميركي موحد لبيان جنيف يقول بالتفاهم على حكومة وحدة وطنية من ضمن الدستور السوري، وتحت راية وفي ظلّ صلاحيات الرئيس الأسد، وأن يرتضي الجميع ترك مصير الرئاسة بعد ذلك لصناديق الاقتراع، وهو ما يعلم كيري أنّ نتائج أي انتخابات نزيهة وشفافة وتحت أشدّ أشكال الرقابة لضمان شفافية ونزاهة التنافس والنتائج ستجلب الأسد مجدداً إلى سدة الرئاسة، ما يجعل مجرّد القول أنّ رحيل الأسد ليس مطلوباً الآن، للقول ضمناً بالقبول بشراكته في الحلّ ولو موقتاً، قبول عملي بقيادته للمرحلة الانتقالية وفقاً لنصوص الدستور السوري، والقبول استطراداً بمسار لا تملك أميركا ولا غير أميركا فرص التحكم فيه، سيعيد الأسد إلى سدة الرئاسة حكماً، وإلا لقبلت واشنطن أصلاً هذا المسار وعملت على إزاحة الأسد عبره. فالآن هو المهمّ الذي يملك كيري حق سحب الفيتو عنه، لينفتح المسار الذي سيقرّر ما بعد الآن، حيث لن يكون لكلام كيري أيّ قيمة، وبكلام كيري عن هذا "الآن” يفرج عن المسار السياسي الذي سيعني عملياً دخول سورية عهد التسويات، التي يعلم الجميع أنها لن توقف الحرب، لكنهم يعلمون أنها ستجبر الدول المتورّطة في الحرب بوقف دعمها للإرهاب، ووقف الإجراءات العدائية ضدّ سورية وإزالة العقوبات التي لحقت بها، ما سيجعل فاتورة الحرب على الإرهاب أقلّ والزمن اللازم للنصر عليه أقصر. وتلك شروط لنهاية المرحلة الانتقالية والذهاب إلى صناديق الاقتراع، التي ستعيد تتويج الأسد قائداً لسورية ورئيساً ديمقراطياً شرعياً ودستورياً لها، كما يعلم كيري الذي قال آخر جملة مفيدة له حول سورية، وهي ليس الآن بالضرورة.