تمسكوا بألأرض سيسقط من في “السماء”!
علاء الرضائي
في بدايات ٢٠٠٤ كان لي حوار صحفي مع مناضل لبناني معروف وكنا نتحدث عن خطأ أميركا في احتلال العراق، وكان ضيفي يصف الإدارة الأميركية بالغباء، وعندما سألته عن صحة أن يصف شخص عدوه بالغباء؟ قال: انه لا يجد وصفاً أدق.. وأضاف ستثبت الأيام ذلك!
اليوم ونحن نقارب منتصف ٢٠١٥ وقد مضى ١١ عاما على حوارنا مع الاستاذ أنيس نقاش، لم أعد أشك بغباء الأميركي لولا توسله بخديعة التناقضات الطائفية وتأجيج الحرب الدينية والمذهبية بمساعدة الأنظمة التابعة له في منطقتنا وبمقدمتها السعودية.
وللحقيقة فإن لعبة الصراع الطائفي والمذهبي التدميرية لم يكن لها لتنجح لولا الدفع الوهابي التاريخي وأنظمة العمالة العربية لأميركا، لذلك أعتقد أنه بالامكان لملمته بشرطين: الاول، ان تتعاضد المرجعيات الدينية في العالم الاسلامي وتحاصر الفكر السلفي الوهابي القادم من مدن الملح، والآخر اذا ما تغير موقف الانظمة الموالية لأميركا في المنطقة وفي مقدمتها حكومة نجد!
أعود الى الغباء الأميركي وخطأ الحسابات ومن هو المستفيد او الذي استطاع ان يحول أخطاء غيره وتعثر مشروعه الى فرصة له ويوسع نفوذه ويوصل صوته لمساحة أكبر. سوف أتحدث بمنطق المؤامرة الذي أؤمن به منذ ان قرأت بروتوكولات حكماء صهيون وأنا في ريعان شبابي!
لم تكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ وعلى فرض براءة أميركا منها براءة الذئب من دم يوسف، لم تكن تستدعي حرباً مهولة كتلك التي قامت بها أميركا ضد أفغانستان، لأنه وببساطة كان يمكن ضرب القاعدة من خلال حاضنتها الأميركية (طالبان) لأنها صناعة أميركية بريطانية سعودية باكستانية على حد اعتراف رئيسة وزراء باكستان "المغدورة” بي نظير بوتو.
ولو سلمنا ايضا بأن طالبان لم تكن عميلة لأحد، فكان هناك أكثر من طريقة لمحاصرتها والاجهاض عليها، من خلال القوى الداخلية المعارضة او ما عرف بتحالف الشمال، ودول الجوار التي على تناقض وعداء مع نظام طالبان. ثم كيف تتجه أميركا وهي لم تحسم الملف الأفغاني لغزو العراق بمساعدة حلفائها الاقليميين وفي مقدمتهم الخليجيين تحت مبررات وحجج واهية وكذبة ملفقة هدفها اعادة تقسيم المنطقة والسيطرة عليها من خلال الصراعات المذهبية والقومية، لذلك ربطت بين الحربين في أفغانستان والعراق واستجلبت مناوئيها معا من تورابورا الى الفلوجة!
لكن الخسائر الكبيرة والتكاليف الباهضة للمشروع الأميركي الذي حمل عنوان "الشرق الأوسط الجديد” والذي بشر به الصهاينة منذ زمن بعيد، هي التي أدت الى تغيير الإدارة الأميركية من جمهوريين الى ديمقراطيين، وشعار التغيير (change) والوعود التي قطعها بسحب القوات واغلاق غوانتانامو والاهتمام بالوضع الداخلي الذي رفعه أوباما، لم يكن الاّ تعبير عن الفشل. هذا الفشل الذي "سلم العراق على طبق من ذهب لايران” كما يقول أذناب أميركا وأعداء ايران في المنطقة!
فكيف تسلّم أميركا العراق الى "محور الشر” وايران كانت الخطوة الثانية أو الثالثة من مشروع التغيير الأميركي للمنطقة؟!
حقيقة الأمر هو أنه كان هناك استثمارين جاريين في العراق قبل ٢٠٠٣، أحدهما استثمار ايراني يقوم على المبادئ ولا يخلو من مصلحة، والآخر استثمار أميركي ـ خليجي يقوم على المصلحة فقط.
ايران مدت جسور تواصلها مع الشعب العراقي من خلال مواقفها الثورية والانسانية والتي لم تجد أصدائها في العراق فقط، بل في كل المنطقة، لكن العراق كان الاكثر تأثرا، لاسباب يعرفها الجميع. وايران عندما تمد جسراً لا تضع عليه اشارات طائفية وقومية في العبور، لذلك استطاعت ان تكسب العراق من زاخو الى الفاو جماهيرياً، باستثناء المرتبطين بالنظام الصدامي (حتى اليوم تجد الجميع على علاقة جيدة بايران رغم اختلافاتهم وسجالاتهم فيما بينهم). في حين ان الاستثمار الأميركي ـ الخليجي كان دائماً فوقياً، دعموا صدام ضد الشعب العراقي وايران، ثم أضعفوه وخلصوا الاكراد منه وتركوا الشيعة للقتل، واخيرا تحالفوا لغزو العراق واسقاط صدام حسين والاتيان بنظام آخر ينفذ أجنداتهم بلباس ديمقراطي، وهنا كان غبائهم.
تصور الأميركيون ان الكيانات الهزيلة والمصطنعة والشخصيات التي جاءوا بها ووضعوها في الواجهة بين ليلة وضحاها ستحقق لهم استراتيجيتهم. وفي المقابل طبقت ايران استراتيجية "لهم السماء ولنا الارض”، بالضبط كما يفعل أنصار الله واليمانيون اليوم مع الاغبياء الجدد!
وبعد انتهاء العمليات العسكرية وسقوط نظام صدام حسين وجد الأميركيون انفسهم في بيئة معادية رغم كل المشاركة المعلنة في العملية السياسية التي أداروها! فولوا هاربين من الجحيم العراقي حتى من دون قواعد عسكرية والتي يملكونها في معظم بلدان المنطقة دون غزو او حرب.
هنا كان الانتصار الايراني.. فأميركا تحملت تبعات وتكلفة الاطاحة بصدام حسين وايران من خلال عقود من الدعم للمعارضة الحقيقية استطاعت ان تكسب الأرض والنفوذ.
وقد يسأل سائل اين العرب من كل ما جرى أمام اعينهم وفي جوارهم؟
الحقيقة التي لا يختلف عليها أحد من عرب وعجم، هو ان العرب (ونقصد الانظمة الموالية للغرب في منطقتنا كالسعودية وشقيقاتها ومصر والاردن والمغرب) لم يكن وليس لهم الى الآن مشروع، لانهم باختصار جزء من المشروع والسياسة الأميركية، وقد لعبوا منذ فترة طويلة دورا تخريبيا ضد الشعب العراقي وباقي الشعوب التي لم ترضخ للإرادة الأميركية. هؤلاء العرب الذين شاركوا بكل قوة في اسقاط صدام حسين ونظام حكمه، جنّ جنونهم وهم يشاهدون حلفاء ايران يصولون ويجولون في مجلس الحكم والبرلمان والحكومة من بعد. فكان مشروعهم (بالتعاون مع سفارة نغروبونتي) هو السيارات المفخخة والانتحاريين القادمين من اطلال "تورابورا” والذهاب بعيدا في استباحة دماء واعراض العراقيين وتدمير كل شئ تحت لواء "التوحيد” الوهابي.
أميركا التي أنفقت أكثر من أربعة تريليونات من الدولارات وقدمت ٧ آلاف قتيل و٥٥١٠ جرحى في حرب العراق، تحاول اليوم من خلال "مؤامرة داعش” أن تعود الى العراق من الشباك بعد ان طردها العراقيون ٢٠١١ من الباب.
وهكذا بالنسبة لأفغانستان، فقد أنفقت هي والناتو منذ عام ٢٠٠١ وحتى اليوم ما يقرب ٥/٢- ٣ تريليونات دولار، ولا تزال ايران هي الأقرب الى الحكومة والشعب الأفغاني، لان ايران استطاعت ان تصدر ثورتها! ولكن خلاف أميركا التي تصدر ديمقراطيتها على ظهر الدبابات وبواسطة صواريخ كروز وتاماهوك.. والارقام التي ذكرها تستند الى دراسات وتقارير أميركية وغربية:
فقد صرح كلٌ من جوزيف ستيجلز، رئيس الخبراء الاقتصاديين الأسبق بالبنك الدولي والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وليندا بيلمز، الأستاذة بجامعة هارفارد، أن إجمالي تكلفة حرب العراق على الاقتصاد الأميركي ستبلغ ثلاثة تريليونات دولار في المتوسط، وهو ما أشارا إليه في كتابهما (The Three Trillion Dollar War ) حرب الثلاثة تريليونات دولار. وربما يزيد هذا المبلغ كما تشير الدراسات المنشورة في مارس ٢٠٠٨. وقال ستيجلز في هذا الشأن: إن الرقم الذي توصلنا إليه أكثر من ٣ تريليونات دولار. وتستند حساباتنا على افتراضات متحفظة. وغني عن القول إن هذا الرقم لا يمثل سوى التكلفة التي تتكبدها أميركا فقط. ولا يعكس التكلفة الهائلة التي يتكبدها باقي العالم أو العراق نفسه.
من جانبها قال تقرير صادر عن جامعة براون في صورة مشروع لتكاليف الحرب، إن إجمالي تكلفة الحروب في كلٍ من العراق وأفغانستان وباكستان يبلغ ٣.٢- ٤ تريليونات دولار على الأقل.
وقد كذَّب التقرير التقديرات السابقة لتكلفة الحرب على العراق التي تشير إلى أنها أقل من تريليون دولار، مشيرًا إلى أن حجم النفقات المباشرة لوزارة الدفاع على العراق بلغ ٧٥٧.٨ بليون دولار على الأقل، لكنه أوضح في الوقت نفسه التكاليف التكميلية داخل البلاد، مثل الفائدة التي تُدفَع على الأموال المقترضة لتمويل الحروب، والزيادة المحتملة في النفقات التي تبلغ حوالى تريليون دولار والخاصة برعاية الجنود القدامى العائدين من القتال حتى عام ٢٠٥٠. ووصل هذا الرقم في تحديث للتقرير في عام ٢٠١٣ إلى ٦ تريليونات دولار.
وهذه الارقام بالطبع لا تشمل خسائر حلفاء أميركا في العالم والمنطقة، فقد انفقت بريطانيا على سبيل المثال حوالى ٤.٥ بليون من الجنيهات الإسترلينية في العراق. ومصدر هذه الأموال كلها صندوق حكومي يحمل اسم "الاحتياطي الخاص” ويبلغ تخصيصه الحالي ٤.٥ بليون جنيه إسترليني.
وبلغت التكلفة التي تكبدتها بريطانيا في حربها بأفغانستان وحدها ٣٧ بليون جنيه إسترليني، وفي يونيو ٢٠١٠، تجاوزت التكاليف التي تكبدتها المملكة المتحدة في حربيها بالعراق وأفغانستان معًا ٢٠ بليون جنيه إسترليني.
الفشل الأميركي في العراق وأفغانستان، خلق عقدة جديدة تضاف الى عقدة فيتنام التاريخية، لذلك استبدلت أميركا استراتيجيتها في التدخل المباشر بـ” الحرب بالوكالة”، فناب عنها الأتراك والقطريون والاردنيون والسعوديون من خلال الارهابيين والمرتزقة في سوريا، وتكفل الاوروبيون عنها تدمير ليبيا، وتولت السعودية وشركاءها في الجريمة العدوان علي اليمن وتدميره بحجج وذرايع واهية. ولكن هل تنجح أميركا وحلفاءها في هذه "الصرعة” العدوانية الجديدة؟
سأضيف على مقولة صديقنا أنيس نقاش: بأن الغباء تسرب من أميركا الى حلفائها.. وان للباطل جولة وللحق دولة، فأمسكوا "الارض” سيسقط من في "السماء "!